أصل الحياة على الأرض
- أدلة جديدة تلمّح إلى كيفية نشوء أولى المتعضيات ( الكائنات الحية ) من مادة غير حية
A . ريكاردو ، J.W. زوستاك
إن كل خلية حية ، بما فيها أبسط أنواع البكتيريا ، تزخر بالآت جزيئية غريبة يحسدها عليها أي عالم تقانات نانوية . ومع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية ، تقطع هذه الآلات ، وتلصق وتنسخ جزئيات جينية ، وتقوم بنقل المغذيات من مكان إلى آخر رأو تحولها إلى طاقة ، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية ، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية - والقائمة تطول وتطول ؛ كما أن اكتشافات جديدة تضاف دائما إلى هذه القائمة .
إنه لمن المستحيل تقريبا فهم الكيفية التي يمكن لآلات الخلية ، وهي في الغالب حفازات catalysts أساسها بروتيني تدعى الإنزيمات enzymes أن تكون قد نشأت تلقائيا عندما نشأت الحياة للمرة الأولى من مادة غير حية ، وذلك منذ نحو 3.7 بليون سنة . وللتأكيد ، فإنه تحت الشروط الصحيحة ، تتشكل بعض قوالب blocks بناء البروتينات ، وهي الأحماض الأمينية ، بسهولة انطلاقا من كيماويات أبسط وذلك كما اكتشف L.S ميلر و C.H يوري ( من جامعة شيكاغو ) في تجاربهم الرائدة التي أجرياها في خمسينات القرن الماضي . ومع هذا ، فإن الانتقال من الأحماض الأمينية إلى تشكل البروتينات والإنزيمات مسألة مختلفة تماما .
إن العملية الخلوية التي تؤدي إلى صناعة البروتين تستخدم إنزيمات معقدة تقوم بفصل جديلتي الدنا DNA المضاعف ، وذلك من أجل استخلاص المعلومات المحتواة في الجينات ( وهي البصمة الخاصة بالبروتينات ) وترجمتها لتعطي المنتج النهائي . لذلك ، فإن شرحا لكيفية بدء الحياة يستلزم التعامل مع مفارقة جدية وهي : إنه من أجل تصنيع البروتينات يتطلب الأمر وجود البروتينات نفسها إضافة إلى المعلومات المخزنة في الدنا .
ومن جهة أخرى ، فإن هذه المفارقة ستختفي في حال أن المتعضيات الأولى لم تتطلب بروتينات على الاطلاق . وتوحي تجارب حديثة أنه كان ممكن لجزيئات جينية شبيه بالدنا أو الجزيء الشديد القرابة له وهو الرنا أن تتشكل تلقائيا . ولأنه يمكن لهذه الجزيئات أن تلتف على نفسها لتأخذ أشكالا مختلفة وأن تقوم بدور حفازات بدائية ، فمن الممكن أنها كانت قد أصبحت قادرة على أن تنسخ ذواتها - أن تتكاثر - من دون الحاجة إلى وجود البروتينات . ومن الممكن أن أكثر أشكال الحياة بدائية كانت عبارة عن أغشية بسيطة مؤلفة من أحماض دسمة - وهي أيضا بنى معروف عنها أنها تشكلت تلقائيا - ضمت في داخلها الماء ، وهذه الجزيئات الجينية ذاتية التضاعف . وهذه المادة الجينية تكوّد السمات التي ينقلها جيل إلى الجيل الذي يليه ، تماما كما يفعل الدنا لدى جميع الأشياء الحية في يومنا هذا . وإن ظهور طفرات بالصدفة وبشكل عشوائي أثناء عملية التضاعف سوف يدفع عملية التطور قُدما ، مما يمكن هذه الخلايات المبكرة early cells من التأقلم مع بيئتها ، وأن تتنافس فيما بينها ، لتصل في النهاية إلى أشكال الحياة التي نعرفها .
ربما يكون العلم قد فقد وإلى الأبد أية معلومات حول الطبيعة الحقيقية للمتعضيات الأولى والظروف الدقيقة لنشوء الحياة ، ولكن باستطاعة البحث العلمي أن يساعدنا على فهم ما هو ممكن حول المتعضيات الأولى
ونشأت الحياة ، والتحدي الأساسي هو في بناء متعضية صنعية يمكن لها أن تتكاثر وأن تتطور . إن تكوين حياة من جديد سيساعدنا بالتأكيد ، على فهم كيف يمكن أن تبدأ الحياة ، وماهو احتمال أن توجد عوالم أخرى ، وفي نهاية المطاف ، معرفة ماهي الحياة .
كان لابد أن تبدأ في مكان ما :
إن واحدا من أكثر الأسرار المحيطة بنشأة الحياة صعوبة وإثارة هو الكيفية التي يمكن للمادة الجينية أن تكون قد تشكلت فيها ابتداءً من جزيئات أبسط كانت موجودة على الأرض الحديثة التشكل . وإذا ما أخذنا في الاعتبار الأدوار التي يتمتع بها الرنا في الخلايا الحالية ؛ يبدو على الأرجح أن الرنا ظهر قبل الدنا . وعندما تصنع الخلايا الحالية البروتينات ، فإنها تنسخ الجينات أولا من الدنا لتصنع منها الرنا وتستخدمه بعد ذلك كبصمة blueprint من أجل صنع البروتينات ومن الممكن أن تكون المرحلة الأخيرة هذه هي وجدت في البداية بشكل مستقل ، وأن الدنا كان قد ظهر لاحقا كشكل أكثر ديمومة من أجل تخزين المعلومات ، وذلك بفضل ثباتية الكيميائية المتفوقة .
ولدى الباحثين سبب إضافي للاعتقاد أن الرنا ظهر قبل الدنا . إن الشكل الرنوي للإنزيمات ، ويدعى الانزيمات الريبية ( ريبوزيمات ) ribozymes يؤدي أيضا دورا محوريا في الخلايا الحديثة . إن البنى structures التي تترجم الرنا إلى بروتين هي آلات هجينة رنوية ، وإن الرنا فيها هوالذي يقوم بالعمل التحفيزي . وبذلك يبدو أن كلا من خلايانا تحمل في ريبوزوماتها دليلا احفوريا fossil على وجود عالم رنوي بدائي .
لذلك ، ركز الكثير من الأبحاث على فهم المنشأ المحتمل للرنا . إن الجزيئات الجينية كالدنا والرنا هي بوليميرات polymers مصنوعة من قوالب بناء تدعى النيوكليوتيدات nucleotides . وبدورها ، تمتلك النيوكليوتيدات مكونات رئيسية ثلاثة : سكر وفوسفات وأساس نووي . وتأتي الأسس النووية بأشكال أربعة تشكل الأبجدية التي تكوّد من خلالها البوليمر المعلومات . وفي نيوكليوتيد الدنا يمكن للأساس النووي nucleobase أن يكون : A, G, C أو T , وهي للدلالة على الأدنين والكوانين والسيتوزين والثايمين ؛ وفي أبجدية الرنا يحل الحرف U دلالة على اليوراسيل ، محل الحرف T .
إن الأسس النووية هي مركبات غنية بالنتروجين يرتبط بعضها ببعض وفقا لقانون بسيط A تقترن بـ U ( أو T ) ، و G تقترن بـ C . تشكل هذه الأزواج القاعدية درجات سُلّم الدنا المفتول - الخلزون المزدوج المألوف - وازدواجها المميز هذا أساسي من أجل نسخ صحيح وأمين للمعلومات مما يسمح بتكاثر الخلية .وفي الوقت نفسه ، تشكل جزيئات السكر والفوسفات الهيكل الأساسي لكل جديلة من الرنا أو الدنا .
يمكن للأسس النووية أن تتجمع تلقائيا وذلك في سلسلة من الخطوات ، ابتداءً من السيانيد والأسيتيلين والماء - وهي جزيئيات كانت بالتأكيد موجودة في المزيج الكيميائي البدائي . كذلك من السهل تشكل السكريات ابداء من مواد ابتدائية . ومن المعروف منذ أكثر من 100 عام أنه يمكن الحصول على خلائط من طرز متعدد من جزيئات السكر عن طريق تسخين محلول قلوي ( قاعدي ) من الفورمالدهايد formaldehyde ، وهو أيضا لابد أنه كان متوافر على سطح الكوكب الحديث التشكل . ومع ذلك ، فإن المشكلة هي كيف يمكن الحصول على النوع " الصحيح " من السكر - الريبوز ، في حالة الرنا - من أجل تصنيع النيوكليوتيدات .يمكنم للريبوز ، إضافة إلى ثلاثة أنواع من السكر الشديد القرابة ، أن تتشكل من تفاعل نوعين أكثر بساطة من السكر يضمان - على التتالي - ذرتين وثلاث ذرات كربون .
ومع ذلك ، فإن مقدرة سكر الريبوز على التشكل بهذه الطريقة لا تحل مسألة الكيفية التي أدت إلى توفره بكثرة على سطح الأرض الحديثة التشكل ، حيث تبيّن أن الريبوز غير ثابت ويتحطم بسرعة وذلك حتى في محلول قلوي خفيف . وفي الماضي ، قادت هذه الملاحظة العديد من الباحثين إلى الاستنتاج أنه من غير الممكن أن تكون الجزيئات الجينية الأولى قد ضمت الريبوز كزء من تركيبها . ولكن أحدنا ( ريكاردو ) مع آخرين اكتشفوا طرائق يمكن من خلالها جعل سكر الريبوز ثابتا ومستقرا .
إن جزء الفوسفات من النيوكليوتيدات يقدم احجية أخرى مثيرة للفضول والاهتمام . فالفوسفور - وهو العنصر المركزي في مجموعة الفوسفات - متوافر بغزارة في قشرة الأرض ، حيث يفترض أن الحياة كانت قد نشأت . لذا ، فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن تكون الفوسفات قد وصلت إلى المزيج ما قبل الحيوي الذي هيّأ لنشوء الحياة . ويمكن لدرجات الحرارة العالية لفوهات البراكين أن تحوّل مواد معدنية محتوية على الفوسفات إلى أشكال موالفوسفات المنحلة ، ولكن الكميات التي تتشكل على الأقل قرب البراكين الحديثة ، صغيرة .
وهناك إمكانية توفر مصدر مختلف لمركبات الفوسفور يتمثل بمادة شريبرسيت schreibersite ، وهي معدن يوجد عموما في نيازك معينة .
في عام 2005 اكتشف كل من " لوريتا " و " باسيك " ( من جامعة أريزونا ) أن تاكل ( صدأ ) الشريبرسيت في الماء يحرر جزأه الفوسفوري . وهذا المسار يبدو واعدا ؛ لأنه يحرر الفوسفور في شكل أكثر انحلالا بكثير في الماء من الفوسفات ، وأكثر تفاعلية مع المركبات العضوية ( ذات الأساس الكربوني ) .
ما هي الحياة ؟
لقد جهد الباحثون طويلا لإيجاد تعريف " للحياة " بطريقة شاملة بما يكفي لتضم الأشكال غير المكتشفة منها بعد . ونورد هنا بعضا من العديد من التعاريف المقترحة :
1- اقترح الفيزيائي E.شرودنكر ، أن صفة معرّفة للأنظمة الحية هي أنها تتجمع ذاتيا مخالفة بذلك نزوع الطبيعة إلى الفوضى ، أو ما يدعى الإنتروبية entropy .
2- إن التعريف الذي صاغه الكيميائي G.جويس ، والذي تبنته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ، هو أن الحياة هي " نظام كيميائي قادر على الاستمرار ذاتيا وعلى التطور وفقا للتطور الدارويني Darwinian evolution
3- إن التعريف السيبراني cybernetic ، الذي صاغه B.كورزينيوسكي ، ينص على أن الحياة هي شبكة من آليات التغذية الراجعة feedback mechanisms .
بعض التركيب مطلوب :
إذا اعتبرنا أن لدينا على الأقل مخططا لمسارات محتملة تقود إلى تشكيل الأسس النووية والسكريات والفوسفات ، فإن الخطوة المنطقية التالية ستكون ربط هذه المكونات فيما بينها بالشكل المناسب . ولكن هذه الخطوة كانت السبب في أشد الاحباطات التي واجهتها ابحاث كيمياء ما قبل الحياة prebiotic chemistry خلال العقود القليلة الماضية . فمجرد مزج المكونات الثلاثة بالماء لايوقد إلى التشكل التلقائي للنيوكليوتيد ، وهذا يعود بشكل أساسي إلى أن كل تفاعل ربط يتضمن أيضا إطلاق جزيء ماء ، وهذا ما لا يحصل غالبا بشكل تلقائي في محلول مائي . ومن أجل تشكل الرابطة الكيميائية اللازمة لارتباط هذه الجزيئات يجب تأمين طاقة ، على سبيل المثال ، عن طريق اضافة مركبات غنية بالطاقة لتساعد على حدوث التفاعل . ومن الممكن أن العديد من هذه المركبات كان قد وُجد على سطح الأرض الحديث التشكل . ولكن في المختبر ، كانت التفاعلات التي غذتها مثل هذه الجزيئات بالطاقة غير فعالة في أحسن أحوالها ، كما لم تكن ناجحة البتة في معظم الأحوال .
وفي ربيع عام 2009 ، وفي عمل ولّد إثارة كبيرة بين العاملين في هذا المجال من الأبحاث أعلن " سذرلاند " ومساعدوه ( من جامعة مانشستر في انكلترا ) أنهم وجدوا طريقة أكثر مصادقية توضح كيفية تشكل النيوكليوتيدات ، وهذه الطريقة تتجاوز موضوع عدم استقرار سكر الريبوز . لقد تخلى هؤلاء الكيبمائيون المبعون عن التقليد المتبع في محاولة تصنيع النيوكليوتيدات بربط أساس نووي وسكر وفوسفات بعضها ببعض . تعتمد مقاربتهم على المواد الابتدائية البسيطة نفسها التي وُظّفت سابقا ، مثل مشتقات السيانيد والأسيتيلين والفورمالدهايد . ولكن بدلا من تشكل الأسس النووية وسكر الريبوز بشكل منفصل ثم محاولة ربطهما معا ، مزج فريق البحث المكونات الابتدائية مع بعضها بعضها ، بوجود الفوسفات . أنتجت سلسلة معقدة من التفاعلات - أدى فيها الفوسفات دور حفّاز أساسيا في العديد من خطواتها - جزيئا صغيرا يدعى " 2- أمينو أوكزازول " 2- aminooxazole ، والذي يمكن اعتباره جزءا من سكر مرتبط بقطعة من أساس نووي .
إن سمة حاسمة من صفات هذا الجزيء الصغير والمستقر هي أنه شديد التطاير volatile . ومن المحتمل أن كميات صغيرة من" 2- أمينو أوكزازول " تشكلت من مزيج من كيماويات أخرى في بركة صغيرة على سطح الأرض الحديثة التشكل ، وعندما تبخر الماء تطايرت جزيئات " 2- أمينو أوكزازول " لتتكثف في مكان آخر بشكل منقّى . وهناك في ذلك المكان ستتجمع لتشكل خزانا من هذه المادة ، جاهزة للدخول في تفاعلات كيميائية إضافية تؤدي إلى تشكل سكر مكتمل وأساس نووي مرتبطين معا .
هناك وجه آخر مهم ومرض لهذه السلسلة من التفاعلات ، وهو أن بعضها من النواتج الثانوية التي تنشأ في مرحلة مبكرة تسهل التحولات التي تطرأ على العملية في المرحلة المتأخرة منها . ومع أن المسار أنيق ، إلا أنه في بعض الحالات لا يولد حصريا الشكل " الصحيح " من النيوكليوتيدات : ففي بعض الحالات لايعطي إرتباط السكر بالأساس النووي التركيب الحيّزي spatial المناسب . ولكن من المدهش ، أن التعرض للإشعة فوق البنفسجية- وقد كانت إشعاعات فوق بنفسجية شديدة تسقط من الشمس على المياة الضحلة المتشكلة على سطح الأرض الحديثة التشكل - يخرب الأشكال " غير الصحيحة " من النيوكليوتيدات ، ويبقي على الأشكال " الصحيحة " . والنتيجة هي طريق نظيف بصورة فائقة لتشكل نيوكليوتيدات السيتوزين C واليوراسيل U . وبالطبع نحن مازلنا بحاجة إلى طريقة من أجل الكوانين G والأدينين A ، وهكذا تبقى أمامنا بعض التحديثات ولكن ، ما يقوم به فريق " سذرلاند " البحثي هو خطوة أساسية باتجاه توضيح الكيفية التي أمكن خلالها لجزيء بتعقيد الرنا أن يتكون على الكرة الأرضية الحديثة التشكل .
بدائل لنظرية " الرنا أولا " :
PNA أولا : إن ببتيد الحمض النووي ( بتا ) PNA ، هو جزيء ترتبط فيه أسس نووية بهيكل أساسي شبيه بالبروتين ، وبسبب كون ببتيد إلينا PNA أبسط وأكثر ثباتا كيميائيا من الرنا RNA ، يعتقد بعض الباحثين أنه قد يكون البوليمير الجيني لأشكال الحياة الأولى على الأرض .
الأيض أولا : إن الصعوبات في شرح الكيفية التي تشكل فيها الرنا ابتداءً من مادة غير حية قادت بعض الباحثين إلى التنظير بأن الحياة نشأة في البداية كشبكات من محفزات تعالج الطاقة .
بانسبيرميا Panspermia: نظرا إلى أن عددا قليلا من مئات ملايين السنين تفصل تشكل الأرض عن ظهور أول أشكال الحياة عليها ، فقد اقترح بعض العلماء أن المتعضيات الأولى على سطح الأرض قد كانت زائرة أتت من عوالم أخرى .
قارورة صغيرة دافئة :
وبمجرد أن تتشكل لدينا النيوكليوتيدات ، فإن الخطوة الأخيرة في عملية الرنا هي البلمرة polymeization حيث يشكل السكر في أحد النيوكليوتيدات الذي يليه بحيث تشكل النيوكليوتيدات سلسلة متصلة . مرة ثانية ، لا يمكن تشكل مثل هذه الروابط تلقائيا في الماء وهي ، بدلا من ذلك ، تحتاج إلى بعض الطاقة الخارجية . ومن خلال إضافة كيماويات متنوعة إلى محلول يضم أشكالا فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات ، تمكن الباحثون من إنتاج سلاسل قصيرة من الرنا ، يتراوح طولها بين 2 و 40 نيوكليوتيد .
وفي أواخر تسعينات القرن العشرين بيّن " فيريس " ومساعدوه ( من معهد رينسلير للتقانات المتعددة ) أن المعادن الغضارية تعزز من هذه العملية مؤدية إلى إنتاج سلاسل من الرنا تصل حتى 50 من النيوكليوتيدات أو ما يقاربها ( علما بأن جينا نموذجيا في عصرنا الحالي يبلغ طوله ما بين آلاف وملايين النيوكليوتيدات ) . إن المقدرة المتأصلة في المعادن الغضارية على الارتباط بالنيوكليوتيدات تمكّنها من وضع جزيئات نشطة كيميائيا قرابة بعضها بعضا ، مما يمكن بالتالي من تشكيل الروابط الكيميائية فيما بينها .
لقد عزز هذا الاكتشاف بأن الحياة يمكن أن تكون قد بدأت على سطوح معدنية ، وغالبا في الطين الغني بالغضار في أسفل أحواض الماء التي شكلتها الينابيع الحارة . ومن المؤكد أن اكتشاف الطريقة التي نشأت فيها البوليميرات الجينية لأول مرة لن يحل مشكلة اصل الحياة . ولكي تكون المتعضيات حية يجب أن تكون قادرة على المضي في التكاثر ، وهي عملية تتضمن نسخ معلومات الجينية . ففي الخلية المعاصرة تقوم الإنزيمات ، وهي جزيئات ذات طبيعة بروتينية ، بوظيفة النسخ هذه .
ولكن يمكن للبوليمرات الجينية إذا قُدّر لها أن تُصنع من التسلسلات النيوكليوتيدية الصحيحة ، أن تنثني على بعضها لتأخذ أشكالا معقدة ويمكن لها أن تحفز تفاعلات كيميائية ، تماما كما تفعل الإنزيمات المعروفة في عصرنا الحالي . لذلك ، يبدو معقولا أنه كان بإمكان الرنا الذي وجد في أولى المتعضيات التحكم في تضاعفه الذاتي . وقد ألهمت هذه الفكرة تجارب عدة في كل من مختبرنا ومختبر " بارتيل " في المعهد MIT ، حيث " طورنا " في هذه التجارب إنزيمات ريبية جديدة .
لقد بدأنا بتريليونات من تسلسلات رنوية عشوائية . ومن ثم ، اخترنا منها التسلسلات التي امتلكت خصائص تحفيزية ، وصنعنا نسخا منها . وفي كل جولة نسخ رنا أُخصعت بعض جدائل الرنا الجديدة إلى طفرات حولتها إلى محفزات أكثر فاعلية ، ومرة أخرى اخترنا تلك التي امتلكت الفعالية التحفيزية الأعلة من أجل إخضاعها للجولة الثانية من النسخ . وقد تمكنا عن طريق هذا التطور الموَجّه من إنتاج إنزيمات ريبية يمكنها تحفيز نسخ جدائل قصيرة نسبيا من جزيئات رنا أخرى ، مع أن هذه الإنزيمات الريبية لم تكن قادرة على نسخ بوليميرات بالاعتماد على تسلسلاتها النيوكليوتيدية بحيث تعطي تسلسلات رنا وليدة .
مؤخرا ، حصل مبدأ التضاعف الذاتي للرنا على دعم من " لينكولن " و " جويس " ( من معهد سكربيس للأبحاث ) حيث قاما بتطوير اثنين من إنزيمات الرنا الريبية ، يمكن لكل منهما أن يصنع نسخا من الآخر وذلك عن طريق وصل جديليتي رنا أقصر إحداهما مع الآخرى . ولسوء الحظ ، تطلب نجاح هذه التجارب توفر قطع رنا كانت موجودة أساسا ، وهي أطول وأكثر تعقيدا من أن تكون قد تشكلت تلقائيا . ومع ذلك ، فإن النتائج توحي أن الرنا يمتلك القدرة التحفيزية الصرفة التي تمكنه من تحفيز تضاعفه الذاتي .
هل هناك بديل أبسط ؟ نستكشف الآن مع آخرين طرقا كيميائية لنسخ جزيئات جينية من دون مساعدة المحفزات . ففي تجارب حديثة ، بدأنا باستخدام " مرصاف " template من جدائل مفردة من الدنا ، ( استخدمنا الدنا لآنه أقل تكلفة وأسهل في العمل ، ولكن كان بإمكاننا استخدام الرنا بالفاعلية نفسها أيضا ) . لقد مزجنا المرصافات بمحلول يحوي نيوكليوتيدات معزولة ، وذلك لنرى إن كانت النيوكليوتيدات سترتبط بالمصراف وذلك من خلال مزاوجة أسس متممة بعضها ببعض ( A ترتبط بـ T و C ترتبط بـ G ) ، وبعد ذلك تتبلمر معطية بذلك جديلة مضاعفة كاملة . وسيكون ذلك الخطوة الأولى بإتجاه التضاعف الكامل ، بمجرد تشكل جديلة مضاعفة ، فإن انفصال هذه الجدائل عن بعضها سيسمح لكل جديلية متممة أن تقوم بدور المرصاف من أجل نسخ الجدلية الأصلية . وهذه العملية هي بطيئة جدا في حال الدنا والرنا النموذجيين . ولكن إجراء تغييرات طفيفة على البنية الكيميائية لمكون السكر في النيوكليوتيد - استبدال زوج واحد من الأكسجين / هيدروجين بمجموعة أمينو ( مكونة من نتروجين وهيدروجين ) - جعل عملية البلمرة أسرع بمئات المرات ، بحيث تشكلت الجدائل المتممة خلال ساعات بدلا من أسابيع . وسلك البوليمير الجديد مسلكا شبيها بالرنا النموذجي وذلك على الرغم من احتوائه على روابط بين النتروجين والفوسفور بدلا من روابط الاكسجين والفوسفور العادية .
قضايا حدودية :
إذا افترضنا للحظة بأنه سيجري في يوم ما ملئ القغرات الموجودة في فهمنا لكيمياء أصل الحياة فإنه يمكن لنا البدء بالتفكير في الكيفية التي أمكن فيها للجزيئيات أن تتفاعل فيما بينها بحيث تجمعت لتأخذ بنى شبيهة بالخلايا أو ما يعرف بـ " الخلايا الأولية " .
إن الأغشية التي تحيط بجميع الخلايا الحديثة تتكون أساسا من طبقة مزدوجة من الليبيدات : غطاء مضاعف من جزيئات زيتية كالفوسفوليبيدات والكوليستيرول . وتحافظ الأغشية على مكونات الخلايا مجتمعة مع بعضها في حيز فراغي واحد ، كما أنها تشكل حاجزا أمام المرور غير المنضبط للجزيئات الضخمة . وتتصرف بروتينات معقدة التركيب منغرسة في هذه الأغشية كحراس بوابات ، كما تقوم بضخ الجزيئات من وإلى الخلية ، في حين تساعد بروتينات أخرى على بناء وإصلاح الغشاء الخلوي . ولكن ، وكيف يمكن لخلية أولية غير متطورة ، تفتقر إلى الآليات البروتينية ، أن تقوم بهذه المهام ؟
وعلى الأغلب ، فإن الأغشية المخاطية كانت قد صنعت من جزيئات أبسط كالأحماض الدسمة ( وهي أحد مكونات الفوسفوليبيدات الأكثر تعقيدا ) وقد بينت دراسات أجريت في أواخر السبعينات أنه بإمكان الأغشية الخلوية بالفعل أن تتجمع تلقائيا ابتداءً من أحماض دسمة صرفة . ولكن الشعور العام كان أن هذه الأغشية قد تشكل حاجزا صعبا أمام عبور النيوكليوتيدات والمغذيات الأخرى المعقدة التركيب إلى داخل الخلية .
وقد أوحت هذه الفكرة أنه من أجل أن تتمكن الخلايا من تصنيع النيوكليوتيدات الخاصة بها كان لابد من تطور الأيض ( الاستقلاب ) الخلوي أولا . ولكن أظهر عمل نُفّذ في مختبرنا أنه في الحقيقة يمكن لجزيئات بضخامة النيوليوتيدات أن تنسل عبر الغشاء الخلوي شريطة أن يكون كل من الأغشية والنيوكليوتيدات ذات أشكال أبسط وأكثر بدائية من نظائرها الموجودة حاليا .
لقد أتاح لنا هذا الاكتشاف إجراء تجربة بسيطة تنمذج مقدرة الخلايا البدائية على نسخ المعلومات الجينية باستخدام مكونات غذائية ذات مصدر بيئي . وقمنا بتحضير حويصلات غشائية membrane vesicles أساسها الأحماض الدسمة وتحتوي بداخلها على قطعة قصيرة من الدنا الوحيد الجديلة . وكما في السابق ، يقوم الدنا هنا بدور مرصاف من أجل إنشاء جديلة جديدة متممة . وبعد ذلك قمنا بتعريض هذه الحويصلات لأشكال فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات . وقد عبرت النيوكليوتيدات الفشائية تلقائيا ، وما أن أصبحت داخل ما يمثل الخلية الأولية ( الحويصلة ) حتى انتظمت على جدية الدنا الموجودة داخل الخلية وتفاعلت كل واحد منها مع الأخرى مشكلة جديلة جديدة متممة . وتدعم هذه التجربة فكرة أن الخلايا الأولى احتوت الرنا ( أو على شبيه له ) ولا شيء آخر غيره ، وأنها تضاعف ( تنسخ ) مادتها الجينية من دون وجود لأية إنزيمات .
معضلة بناء متعضية من مواد غير حية :
يتطلع العلماء الذين يدرسون نشوء الحياة إلى بناء متعضية ذاتية التضاعف وذلك انطلاقا من مواد غير حية تماما . والتحدي الاكبر في هذا المضمار هو ايجاد جزيء جيني genetic molecule قادر على التضاعف الذاتي تلقائيا . ويقوم المؤلفان والمتعاونون معهما بتصميم وتركيب صيغ معدلة من الرنا والدنا بحثا عن هذه الخاصية المحيرة . وربما لا يكون الرنا بذاته هو الحل ، فضفائره المضاعفة لا تنفصل بسهولة لتصير جاهزة للتنسّخ ( للتضاعف ) ، إلا إذا كانت قصيرة جداً .
ليكن هناك انقسام :
حتى تتمكن الخلايا الأولية من التكاثر ، عليها أن تكون قادرة على النمو وأن تضاعف محتواها الجيني ، ومن ثم تنقسم إلى خلايا بنات للخلية الأم المتساوية في الحجم . وقد أظهرت التجارب أن الحويصلات البدائية يمكنها النمو على الأقل بطريقتين مميزتين . وفي إطار عمل رائد أجري في التسعينات ، قام " لويزي " وزملاؤه ( من المعهد الفيدرالي السويسري للتقانة في زيورخ ) بإضافة أحماض دهنية جديدة إلى الماء المحيط بهذه الحويصلات . وقد استجابت أغشية الحويصلات بالسماح بدخول هذه الأحماض الدهنية عبر أغشيتها ، ونمت مساحتها السطحية نتيجة لذلك . ومع استمرار الدخول البطيء للماء والمواد المنحلة فيه إلى داخل الخلايا ازادا أيضا حجمها .
وفي مقاربة ثانية ، جرى استكشافها في مختبرنا من قبل طالبة الدراسات العليا حينذاك " تشين " تضمنت التنافس بين خلايا أولية ، حيث أصبحت خلايا أولية نموذجية منتفخة نتيجة ملئها بالرنا أو بمادة شبيهة ، وهو تأثير حلولي osmotic ناتج من محاولة جزيئات الماء دخول الخلايا ومعادلة تركيزها داخل وخارج هذه الخلايا . وبذلك فإن غشاء مثل الحويصلات المنتفخة تعرّض لتوتر ، وهذا التوتر أدى إلى النمو ، وذلك لأن إضافة جزيئات جديدة تًهدئ من التوتر الحاصل على الأغشية ، منخفضة بذلك طاقة المنظومة . وفي الحقيقة ، إن الحويصلات المنتفخة نمت عن طريق سرعة الأحماض الدهنية من الحويصلات المسترخية المجاورة ، التي انكمشت نتيجة لذلك .
في عام 2008 ، لاحظ " زهو " ( وهو طالب دراسات عليا في مختبرنا ) نمو خلايا أولية نموذجية إثر تغذيتها بأحماض دهنية أضيفت حديثا . ولدهشتنا ، فإن الحويصلات التي كانت أساسا كروية الشكل لم تنمُ بحيث صارت أكبر حجما ، وإنما قامت ، بدلا من ذلك ، بمد استطالات رفيعة استمرت بالنمور طولا وازدادت ثخانتها ، محولة الحويصلة برمتها تدريجيا إلى أنبوب طويل رفيع . وقد كانت هذه البنية حساسة ، بحث إن هتزازا خفيف ( كذلك الذي مكن أن يحدث عندما تولد ريح خفيفة موجات على سطح بركة ما ) تسبب في تفتت الحويصلة إلى عدد من الخلايا البنات البدائية الصغيرة الحجم والكروية الشكل ، والتي نمت بدورها لتصبح أضخم وتعيد تكرار الدورة السابقة نفسها .
إذن ، عند توفر قوالب البناء المناسبة ، فإن تشكل الخلايا الأولية لايبدو أمرأ صعبا : فالأغشية تتشكل ذاتيا والبوليميرات الجينية تتشكل ذاتيا أيضا ، ويمكن جمع هذين المكونين معا بطرائق متنوعة ، مثلا ، كأن تتشكل الأغشية حول بوليميرات موجودة أصلا . كذلك ، فإن هذه الأكياس من الماء والرنا ستنمو أيضا ، وتمتص جزيئات جديدة ، وتتنافس على الغذاء ، وتنقسم . ولكنها من أجل أن تغدو حيّة فإنها ستحتاج أيضا إلى أن تتكاثر وتتطور . وعلى الأخص ، فإنها تحتاج إلى فصل جديلتي الرنا الموجودتين في داخلها إحداهما عن الأخرى بحيث تتمكن كل جديلة منفردة من أداء دور مرصاف لتشكيل جديلة جديد يمكن توريثها إلى خلية ابنة للخلية الأم .
لا يمكن أن تكون هذه العملية قد بدأت من تلقائها ، ولكن يمكن أن تكون قد جرت بقليل من المساعدة . تخيل مثلا ، منطقة بركانية على سطح الأرض الحديثة التشكل الذي تعُمُّه البرودة ( في ذلك الوقت ، كانت قوة الشمس الإشعاعية على سطح الأرض تعادل 70 % من قوتها الإشعاعية الحالية ) . لقد كان من الممكن حينذاك وجود برك صغيرة من الماء البارد ، وربما المغطى جزئيا بالجليد وبقي معظمه في شكل السائل بتأثير تماسه مع الصخور الساخنة .
والفروقات الحرارية ستتسبب في تشكيل تيارات حمل حراري ، بحيث إنه بين الحين والآخر ستتعرض الخلايا الأولية الموجودة في الماء إلى دفقة من الحرارة أثناء مرورها بالقرب من الصخور الحارة ، ولكنها ستعود وتبرد لحظيا مرة أخرى نتيجة لإختلاط الماء الساخن بالكتلة الأكبر من الماء البارد . كما أن التسخين المفاجئ سيتسبب في انفصال الحلزون المزدوج إلى جديلتين منفردتين . ولدى عودتها إلى المنطقة الباردة ، ونتيجة لقيام الجدائل المنفردة بدور مرصافات يمكن أن تتشكل جدائل مزدوجة جديدة - هي نسخ من الجدائل الأصلية .
وما إن دفعت البيئة الخلايا الأولية نحو التكاثر ، انطلق التطور ، وعلى الأخص حدثت في لحظات ما طفرات على بعض تسلسلات الرنا ، محولة إياها إلى إنزيمات ريبية سرّعت عملية نسخ الرنا مضيفة بذلك ميزة تنافسية . مما أدى في النهاية إلى بدء الإنزيمات الريبية بنسخ الرنا من دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية .
ومن السهل نسبيا تخيل الكيفية التي تطورت من خلالها خلايا أولية أساسها الرنا . يمكن أن يكون الأيض قد نشأ تدريجيا ، مع تمكين الإنزيمات الريبية للخلايا من تصنيع المواد المغذية داخيا ابتداءً من مواد أولية أبسط وأكثر وفرة ً . وبعد ذلك يمكن أن تكون المتعضيات قد أضافت صناعة البروتين إلى جعبة الخدع الكيميائية التي تمتلكها .
ونتيجة لمقدراتها المدهشة ، فلابد أن البروتينات كانت قد استولت على دور الرنا في المساعدة على النسخ الجيني والأيض وفيما بعد " تعلّمت " المتعضيات كيفية صناعة الدنا مكتسبة بذلك ميزة امتلاك حامل للمعلومات الجينية أكثر صلابة وقوة في تلك اللحظة ، أصبح عالمُ الرنا علما للدنا ، وبدأت معه الحياة كما نعرفها الآن .
______
المؤلفان Alonso Ricardo و Jack W.Szostak
"ريكاردو " ولد في كولومبيا ، وهو باحث زميل في معهد هاوارد هيوز الطبي بجامعة هارفرد . لديه اهتمام كبير بأصل الحياة وهو يدرس الآن الأنظمة الكيميائية الذاتية التضاعف .
"زوستاك" هو استاذ علم الوراثة في جامعة هارفرد . واهتمامه بالانشاء المختبري للبنى البيولوجية كوسيلة لاختبار فهمنا حول كيف تعمل عمل البيولوجيا . يعود إلى انشاء الكروموسومات الصنعية ، التي كان قد وصفها في العدد 1987/11 من مجلة ساينتفيك أميركان.
المصدر : مجلة العلوم الأميركية 2010 - المجلد 26 - العددان 3- 4 .
مصدر المقال المترجم: منتدى الملحدين العرب
ترجمة: ZIAD
- أدلة جديدة تلمّح إلى كيفية نشوء أولى المتعضيات ( الكائنات الحية ) من مادة غير حية
A . ريكاردو ، J.W. زوستاك
إن كل خلية حية ، بما فيها أبسط أنواع البكتيريا ، تزخر بالآت جزيئية غريبة يحسدها عليها أي عالم تقانات نانوية . ومع اهتزازها أو التفافها أو زحفها المتواصل في أرجاء الخلية ، تقطع هذه الآلات ، وتلصق وتنسخ جزئيات جينية ، وتقوم بنقل المغذيات من مكان إلى آخر رأو تحولها إلى طاقة ، وتبني أو تصلح الأغشية الخلوية ، وتنقل الرسائل الميكانيكية والكيميائية والكهربائية - والقائمة تطول وتطول ؛ كما أن اكتشافات جديدة تضاف دائما إلى هذه القائمة .
إنه لمن المستحيل تقريبا فهم الكيفية التي يمكن لآلات الخلية ، وهي في الغالب حفازات catalysts أساسها بروتيني تدعى الإنزيمات enzymes أن تكون قد نشأت تلقائيا عندما نشأت الحياة للمرة الأولى من مادة غير حية ، وذلك منذ نحو 3.7 بليون سنة . وللتأكيد ، فإنه تحت الشروط الصحيحة ، تتشكل بعض قوالب blocks بناء البروتينات ، وهي الأحماض الأمينية ، بسهولة انطلاقا من كيماويات أبسط وذلك كما اكتشف L.S ميلر و C.H يوري ( من جامعة شيكاغو ) في تجاربهم الرائدة التي أجرياها في خمسينات القرن الماضي . ومع هذا ، فإن الانتقال من الأحماض الأمينية إلى تشكل البروتينات والإنزيمات مسألة مختلفة تماما .
إن العملية الخلوية التي تؤدي إلى صناعة البروتين تستخدم إنزيمات معقدة تقوم بفصل جديلتي الدنا DNA المضاعف ، وذلك من أجل استخلاص المعلومات المحتواة في الجينات ( وهي البصمة الخاصة بالبروتينات ) وترجمتها لتعطي المنتج النهائي . لذلك ، فإن شرحا لكيفية بدء الحياة يستلزم التعامل مع مفارقة جدية وهي : إنه من أجل تصنيع البروتينات يتطلب الأمر وجود البروتينات نفسها إضافة إلى المعلومات المخزنة في الدنا .
ومن جهة أخرى ، فإن هذه المفارقة ستختفي في حال أن المتعضيات الأولى لم تتطلب بروتينات على الاطلاق . وتوحي تجارب حديثة أنه كان ممكن لجزيئات جينية شبيه بالدنا أو الجزيء الشديد القرابة له وهو الرنا أن تتشكل تلقائيا . ولأنه يمكن لهذه الجزيئات أن تلتف على نفسها لتأخذ أشكالا مختلفة وأن تقوم بدور حفازات بدائية ، فمن الممكن أنها كانت قد أصبحت قادرة على أن تنسخ ذواتها - أن تتكاثر - من دون الحاجة إلى وجود البروتينات . ومن الممكن أن أكثر أشكال الحياة بدائية كانت عبارة عن أغشية بسيطة مؤلفة من أحماض دسمة - وهي أيضا بنى معروف عنها أنها تشكلت تلقائيا - ضمت في داخلها الماء ، وهذه الجزيئات الجينية ذاتية التضاعف . وهذه المادة الجينية تكوّد السمات التي ينقلها جيل إلى الجيل الذي يليه ، تماما كما يفعل الدنا لدى جميع الأشياء الحية في يومنا هذا . وإن ظهور طفرات بالصدفة وبشكل عشوائي أثناء عملية التضاعف سوف يدفع عملية التطور قُدما ، مما يمكن هذه الخلايات المبكرة early cells من التأقلم مع بيئتها ، وأن تتنافس فيما بينها ، لتصل في النهاية إلى أشكال الحياة التي نعرفها .
ربما يكون العلم قد فقد وإلى الأبد أية معلومات حول الطبيعة الحقيقية للمتعضيات الأولى والظروف الدقيقة لنشوء الحياة ، ولكن باستطاعة البحث العلمي أن يساعدنا على فهم ما هو ممكن حول المتعضيات الأولى
ونشأت الحياة ، والتحدي الأساسي هو في بناء متعضية صنعية يمكن لها أن تتكاثر وأن تتطور . إن تكوين حياة من جديد سيساعدنا بالتأكيد ، على فهم كيف يمكن أن تبدأ الحياة ، وماهو احتمال أن توجد عوالم أخرى ، وفي نهاية المطاف ، معرفة ماهي الحياة .
كان لابد أن تبدأ في مكان ما :
إن واحدا من أكثر الأسرار المحيطة بنشأة الحياة صعوبة وإثارة هو الكيفية التي يمكن للمادة الجينية أن تكون قد تشكلت فيها ابتداءً من جزيئات أبسط كانت موجودة على الأرض الحديثة التشكل . وإذا ما أخذنا في الاعتبار الأدوار التي يتمتع بها الرنا في الخلايا الحالية ؛ يبدو على الأرجح أن الرنا ظهر قبل الدنا . وعندما تصنع الخلايا الحالية البروتينات ، فإنها تنسخ الجينات أولا من الدنا لتصنع منها الرنا وتستخدمه بعد ذلك كبصمة blueprint من أجل صنع البروتينات ومن الممكن أن تكون المرحلة الأخيرة هذه هي وجدت في البداية بشكل مستقل ، وأن الدنا كان قد ظهر لاحقا كشكل أكثر ديمومة من أجل تخزين المعلومات ، وذلك بفضل ثباتية الكيميائية المتفوقة .
ولدى الباحثين سبب إضافي للاعتقاد أن الرنا ظهر قبل الدنا . إن الشكل الرنوي للإنزيمات ، ويدعى الانزيمات الريبية ( ريبوزيمات ) ribozymes يؤدي أيضا دورا محوريا في الخلايا الحديثة . إن البنى structures التي تترجم الرنا إلى بروتين هي آلات هجينة رنوية ، وإن الرنا فيها هوالذي يقوم بالعمل التحفيزي . وبذلك يبدو أن كلا من خلايانا تحمل في ريبوزوماتها دليلا احفوريا fossil على وجود عالم رنوي بدائي .
لذلك ، ركز الكثير من الأبحاث على فهم المنشأ المحتمل للرنا . إن الجزيئات الجينية كالدنا والرنا هي بوليميرات polymers مصنوعة من قوالب بناء تدعى النيوكليوتيدات nucleotides . وبدورها ، تمتلك النيوكليوتيدات مكونات رئيسية ثلاثة : سكر وفوسفات وأساس نووي . وتأتي الأسس النووية بأشكال أربعة تشكل الأبجدية التي تكوّد من خلالها البوليمر المعلومات . وفي نيوكليوتيد الدنا يمكن للأساس النووي nucleobase أن يكون : A, G, C أو T , وهي للدلالة على الأدنين والكوانين والسيتوزين والثايمين ؛ وفي أبجدية الرنا يحل الحرف U دلالة على اليوراسيل ، محل الحرف T .
إن الأسس النووية هي مركبات غنية بالنتروجين يرتبط بعضها ببعض وفقا لقانون بسيط A تقترن بـ U ( أو T ) ، و G تقترن بـ C . تشكل هذه الأزواج القاعدية درجات سُلّم الدنا المفتول - الخلزون المزدوج المألوف - وازدواجها المميز هذا أساسي من أجل نسخ صحيح وأمين للمعلومات مما يسمح بتكاثر الخلية .وفي الوقت نفسه ، تشكل جزيئات السكر والفوسفات الهيكل الأساسي لكل جديلة من الرنا أو الدنا .
يمكن للأسس النووية أن تتجمع تلقائيا وذلك في سلسلة من الخطوات ، ابتداءً من السيانيد والأسيتيلين والماء - وهي جزيئيات كانت بالتأكيد موجودة في المزيج الكيميائي البدائي . كذلك من السهل تشكل السكريات ابداء من مواد ابتدائية . ومن المعروف منذ أكثر من 100 عام أنه يمكن الحصول على خلائط من طرز متعدد من جزيئات السكر عن طريق تسخين محلول قلوي ( قاعدي ) من الفورمالدهايد formaldehyde ، وهو أيضا لابد أنه كان متوافر على سطح الكوكب الحديث التشكل . ومع ذلك ، فإن المشكلة هي كيف يمكن الحصول على النوع " الصحيح " من السكر - الريبوز ، في حالة الرنا - من أجل تصنيع النيوكليوتيدات .يمكنم للريبوز ، إضافة إلى ثلاثة أنواع من السكر الشديد القرابة ، أن تتشكل من تفاعل نوعين أكثر بساطة من السكر يضمان - على التتالي - ذرتين وثلاث ذرات كربون .
ومع ذلك ، فإن مقدرة سكر الريبوز على التشكل بهذه الطريقة لا تحل مسألة الكيفية التي أدت إلى توفره بكثرة على سطح الأرض الحديثة التشكل ، حيث تبيّن أن الريبوز غير ثابت ويتحطم بسرعة وذلك حتى في محلول قلوي خفيف . وفي الماضي ، قادت هذه الملاحظة العديد من الباحثين إلى الاستنتاج أنه من غير الممكن أن تكون الجزيئات الجينية الأولى قد ضمت الريبوز كزء من تركيبها . ولكن أحدنا ( ريكاردو ) مع آخرين اكتشفوا طرائق يمكن من خلالها جعل سكر الريبوز ثابتا ومستقرا .
إن جزء الفوسفات من النيوكليوتيدات يقدم احجية أخرى مثيرة للفضول والاهتمام . فالفوسفور - وهو العنصر المركزي في مجموعة الفوسفات - متوافر بغزارة في قشرة الأرض ، حيث يفترض أن الحياة كانت قد نشأت . لذا ، فإنه من غير الواضح كيف يمكن أن تكون الفوسفات قد وصلت إلى المزيج ما قبل الحيوي الذي هيّأ لنشوء الحياة . ويمكن لدرجات الحرارة العالية لفوهات البراكين أن تحوّل مواد معدنية محتوية على الفوسفات إلى أشكال موالفوسفات المنحلة ، ولكن الكميات التي تتشكل على الأقل قرب البراكين الحديثة ، صغيرة .
وهناك إمكانية توفر مصدر مختلف لمركبات الفوسفور يتمثل بمادة شريبرسيت schreibersite ، وهي معدن يوجد عموما في نيازك معينة .
في عام 2005 اكتشف كل من " لوريتا " و " باسيك " ( من جامعة أريزونا ) أن تاكل ( صدأ ) الشريبرسيت في الماء يحرر جزأه الفوسفوري . وهذا المسار يبدو واعدا ؛ لأنه يحرر الفوسفور في شكل أكثر انحلالا بكثير في الماء من الفوسفات ، وأكثر تفاعلية مع المركبات العضوية ( ذات الأساس الكربوني ) .
ما هي الحياة ؟
لقد جهد الباحثون طويلا لإيجاد تعريف " للحياة " بطريقة شاملة بما يكفي لتضم الأشكال غير المكتشفة منها بعد . ونورد هنا بعضا من العديد من التعاريف المقترحة :
1- اقترح الفيزيائي E.شرودنكر ، أن صفة معرّفة للأنظمة الحية هي أنها تتجمع ذاتيا مخالفة بذلك نزوع الطبيعة إلى الفوضى ، أو ما يدعى الإنتروبية entropy .
2- إن التعريف الذي صاغه الكيميائي G.جويس ، والذي تبنته وكالة الفضاء الأمريكية ناسا ، هو أن الحياة هي " نظام كيميائي قادر على الاستمرار ذاتيا وعلى التطور وفقا للتطور الدارويني Darwinian evolution
3- إن التعريف السيبراني cybernetic ، الذي صاغه B.كورزينيوسكي ، ينص على أن الحياة هي شبكة من آليات التغذية الراجعة feedback mechanisms .
بعض التركيب مطلوب :
إذا اعتبرنا أن لدينا على الأقل مخططا لمسارات محتملة تقود إلى تشكيل الأسس النووية والسكريات والفوسفات ، فإن الخطوة المنطقية التالية ستكون ربط هذه المكونات فيما بينها بالشكل المناسب . ولكن هذه الخطوة كانت السبب في أشد الاحباطات التي واجهتها ابحاث كيمياء ما قبل الحياة prebiotic chemistry خلال العقود القليلة الماضية . فمجرد مزج المكونات الثلاثة بالماء لايوقد إلى التشكل التلقائي للنيوكليوتيد ، وهذا يعود بشكل أساسي إلى أن كل تفاعل ربط يتضمن أيضا إطلاق جزيء ماء ، وهذا ما لا يحصل غالبا بشكل تلقائي في محلول مائي . ومن أجل تشكل الرابطة الكيميائية اللازمة لارتباط هذه الجزيئات يجب تأمين طاقة ، على سبيل المثال ، عن طريق اضافة مركبات غنية بالطاقة لتساعد على حدوث التفاعل . ومن الممكن أن العديد من هذه المركبات كان قد وُجد على سطح الأرض الحديث التشكل . ولكن في المختبر ، كانت التفاعلات التي غذتها مثل هذه الجزيئات بالطاقة غير فعالة في أحسن أحوالها ، كما لم تكن ناجحة البتة في معظم الأحوال .
وفي ربيع عام 2009 ، وفي عمل ولّد إثارة كبيرة بين العاملين في هذا المجال من الأبحاث أعلن " سذرلاند " ومساعدوه ( من جامعة مانشستر في انكلترا ) أنهم وجدوا طريقة أكثر مصادقية توضح كيفية تشكل النيوكليوتيدات ، وهذه الطريقة تتجاوز موضوع عدم استقرار سكر الريبوز . لقد تخلى هؤلاء الكيبمائيون المبعون عن التقليد المتبع في محاولة تصنيع النيوكليوتيدات بربط أساس نووي وسكر وفوسفات بعضها ببعض . تعتمد مقاربتهم على المواد الابتدائية البسيطة نفسها التي وُظّفت سابقا ، مثل مشتقات السيانيد والأسيتيلين والفورمالدهايد . ولكن بدلا من تشكل الأسس النووية وسكر الريبوز بشكل منفصل ثم محاولة ربطهما معا ، مزج فريق البحث المكونات الابتدائية مع بعضها بعضها ، بوجود الفوسفات . أنتجت سلسلة معقدة من التفاعلات - أدى فيها الفوسفات دور حفّاز أساسيا في العديد من خطواتها - جزيئا صغيرا يدعى " 2- أمينو أوكزازول " 2- aminooxazole ، والذي يمكن اعتباره جزءا من سكر مرتبط بقطعة من أساس نووي .
إن سمة حاسمة من صفات هذا الجزيء الصغير والمستقر هي أنه شديد التطاير volatile . ومن المحتمل أن كميات صغيرة من" 2- أمينو أوكزازول " تشكلت من مزيج من كيماويات أخرى في بركة صغيرة على سطح الأرض الحديثة التشكل ، وعندما تبخر الماء تطايرت جزيئات " 2- أمينو أوكزازول " لتتكثف في مكان آخر بشكل منقّى . وهناك في ذلك المكان ستتجمع لتشكل خزانا من هذه المادة ، جاهزة للدخول في تفاعلات كيميائية إضافية تؤدي إلى تشكل سكر مكتمل وأساس نووي مرتبطين معا .
هناك وجه آخر مهم ومرض لهذه السلسلة من التفاعلات ، وهو أن بعضها من النواتج الثانوية التي تنشأ في مرحلة مبكرة تسهل التحولات التي تطرأ على العملية في المرحلة المتأخرة منها . ومع أن المسار أنيق ، إلا أنه في بعض الحالات لا يولد حصريا الشكل " الصحيح " من النيوكليوتيدات : ففي بعض الحالات لايعطي إرتباط السكر بالأساس النووي التركيب الحيّزي spatial المناسب . ولكن من المدهش ، أن التعرض للإشعة فوق البنفسجية- وقد كانت إشعاعات فوق بنفسجية شديدة تسقط من الشمس على المياة الضحلة المتشكلة على سطح الأرض الحديثة التشكل - يخرب الأشكال " غير الصحيحة " من النيوكليوتيدات ، ويبقي على الأشكال " الصحيحة " . والنتيجة هي طريق نظيف بصورة فائقة لتشكل نيوكليوتيدات السيتوزين C واليوراسيل U . وبالطبع نحن مازلنا بحاجة إلى طريقة من أجل الكوانين G والأدينين A ، وهكذا تبقى أمامنا بعض التحديثات ولكن ، ما يقوم به فريق " سذرلاند " البحثي هو خطوة أساسية باتجاه توضيح الكيفية التي أمكن خلالها لجزيء بتعقيد الرنا أن يتكون على الكرة الأرضية الحديثة التشكل .
بدائل لنظرية " الرنا أولا " :
PNA أولا : إن ببتيد الحمض النووي ( بتا ) PNA ، هو جزيء ترتبط فيه أسس نووية بهيكل أساسي شبيه بالبروتين ، وبسبب كون ببتيد إلينا PNA أبسط وأكثر ثباتا كيميائيا من الرنا RNA ، يعتقد بعض الباحثين أنه قد يكون البوليمير الجيني لأشكال الحياة الأولى على الأرض .
الأيض أولا : إن الصعوبات في شرح الكيفية التي تشكل فيها الرنا ابتداءً من مادة غير حية قادت بعض الباحثين إلى التنظير بأن الحياة نشأة في البداية كشبكات من محفزات تعالج الطاقة .
بانسبيرميا Panspermia: نظرا إلى أن عددا قليلا من مئات ملايين السنين تفصل تشكل الأرض عن ظهور أول أشكال الحياة عليها ، فقد اقترح بعض العلماء أن المتعضيات الأولى على سطح الأرض قد كانت زائرة أتت من عوالم أخرى .
قارورة صغيرة دافئة :
وبمجرد أن تتشكل لدينا النيوكليوتيدات ، فإن الخطوة الأخيرة في عملية الرنا هي البلمرة polymeization حيث يشكل السكر في أحد النيوكليوتيدات الذي يليه بحيث تشكل النيوكليوتيدات سلسلة متصلة . مرة ثانية ، لا يمكن تشكل مثل هذه الروابط تلقائيا في الماء وهي ، بدلا من ذلك ، تحتاج إلى بعض الطاقة الخارجية . ومن خلال إضافة كيماويات متنوعة إلى محلول يضم أشكالا فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات ، تمكن الباحثون من إنتاج سلاسل قصيرة من الرنا ، يتراوح طولها بين 2 و 40 نيوكليوتيد .
وفي أواخر تسعينات القرن العشرين بيّن " فيريس " ومساعدوه ( من معهد رينسلير للتقانات المتعددة ) أن المعادن الغضارية تعزز من هذه العملية مؤدية إلى إنتاج سلاسل من الرنا تصل حتى 50 من النيوكليوتيدات أو ما يقاربها ( علما بأن جينا نموذجيا في عصرنا الحالي يبلغ طوله ما بين آلاف وملايين النيوكليوتيدات ) . إن المقدرة المتأصلة في المعادن الغضارية على الارتباط بالنيوكليوتيدات تمكّنها من وضع جزيئات نشطة كيميائيا قرابة بعضها بعضا ، مما يمكن بالتالي من تشكيل الروابط الكيميائية فيما بينها .
لقد عزز هذا الاكتشاف بأن الحياة يمكن أن تكون قد بدأت على سطوح معدنية ، وغالبا في الطين الغني بالغضار في أسفل أحواض الماء التي شكلتها الينابيع الحارة . ومن المؤكد أن اكتشاف الطريقة التي نشأت فيها البوليميرات الجينية لأول مرة لن يحل مشكلة اصل الحياة . ولكي تكون المتعضيات حية يجب أن تكون قادرة على المضي في التكاثر ، وهي عملية تتضمن نسخ معلومات الجينية . ففي الخلية المعاصرة تقوم الإنزيمات ، وهي جزيئات ذات طبيعة بروتينية ، بوظيفة النسخ هذه .
ولكن يمكن للبوليمرات الجينية إذا قُدّر لها أن تُصنع من التسلسلات النيوكليوتيدية الصحيحة ، أن تنثني على بعضها لتأخذ أشكالا معقدة ويمكن لها أن تحفز تفاعلات كيميائية ، تماما كما تفعل الإنزيمات المعروفة في عصرنا الحالي . لذلك ، يبدو معقولا أنه كان بإمكان الرنا الذي وجد في أولى المتعضيات التحكم في تضاعفه الذاتي . وقد ألهمت هذه الفكرة تجارب عدة في كل من مختبرنا ومختبر " بارتيل " في المعهد MIT ، حيث " طورنا " في هذه التجارب إنزيمات ريبية جديدة .
لقد بدأنا بتريليونات من تسلسلات رنوية عشوائية . ومن ثم ، اخترنا منها التسلسلات التي امتلكت خصائص تحفيزية ، وصنعنا نسخا منها . وفي كل جولة نسخ رنا أُخصعت بعض جدائل الرنا الجديدة إلى طفرات حولتها إلى محفزات أكثر فاعلية ، ومرة أخرى اخترنا تلك التي امتلكت الفعالية التحفيزية الأعلة من أجل إخضاعها للجولة الثانية من النسخ . وقد تمكنا عن طريق هذا التطور الموَجّه من إنتاج إنزيمات ريبية يمكنها تحفيز نسخ جدائل قصيرة نسبيا من جزيئات رنا أخرى ، مع أن هذه الإنزيمات الريبية لم تكن قادرة على نسخ بوليميرات بالاعتماد على تسلسلاتها النيوكليوتيدية بحيث تعطي تسلسلات رنا وليدة .
مؤخرا ، حصل مبدأ التضاعف الذاتي للرنا على دعم من " لينكولن " و " جويس " ( من معهد سكربيس للأبحاث ) حيث قاما بتطوير اثنين من إنزيمات الرنا الريبية ، يمكن لكل منهما أن يصنع نسخا من الآخر وذلك عن طريق وصل جديليتي رنا أقصر إحداهما مع الآخرى . ولسوء الحظ ، تطلب نجاح هذه التجارب توفر قطع رنا كانت موجودة أساسا ، وهي أطول وأكثر تعقيدا من أن تكون قد تشكلت تلقائيا . ومع ذلك ، فإن النتائج توحي أن الرنا يمتلك القدرة التحفيزية الصرفة التي تمكنه من تحفيز تضاعفه الذاتي .
هل هناك بديل أبسط ؟ نستكشف الآن مع آخرين طرقا كيميائية لنسخ جزيئات جينية من دون مساعدة المحفزات . ففي تجارب حديثة ، بدأنا باستخدام " مرصاف " template من جدائل مفردة من الدنا ، ( استخدمنا الدنا لآنه أقل تكلفة وأسهل في العمل ، ولكن كان بإمكاننا استخدام الرنا بالفاعلية نفسها أيضا ) . لقد مزجنا المرصافات بمحلول يحوي نيوكليوتيدات معزولة ، وذلك لنرى إن كانت النيوكليوتيدات سترتبط بالمصراف وذلك من خلال مزاوجة أسس متممة بعضها ببعض ( A ترتبط بـ T و C ترتبط بـ G ) ، وبعد ذلك تتبلمر معطية بذلك جديلة مضاعفة كاملة . وسيكون ذلك الخطوة الأولى بإتجاه التضاعف الكامل ، بمجرد تشكل جديلة مضاعفة ، فإن انفصال هذه الجدائل عن بعضها سيسمح لكل جديلية متممة أن تقوم بدور المرصاف من أجل نسخ الجدلية الأصلية . وهذه العملية هي بطيئة جدا في حال الدنا والرنا النموذجيين . ولكن إجراء تغييرات طفيفة على البنية الكيميائية لمكون السكر في النيوكليوتيد - استبدال زوج واحد من الأكسجين / هيدروجين بمجموعة أمينو ( مكونة من نتروجين وهيدروجين ) - جعل عملية البلمرة أسرع بمئات المرات ، بحيث تشكلت الجدائل المتممة خلال ساعات بدلا من أسابيع . وسلك البوليمير الجديد مسلكا شبيها بالرنا النموذجي وذلك على الرغم من احتوائه على روابط بين النتروجين والفوسفور بدلا من روابط الاكسجين والفوسفور العادية .
قضايا حدودية :
إذا افترضنا للحظة بأنه سيجري في يوم ما ملئ القغرات الموجودة في فهمنا لكيمياء أصل الحياة فإنه يمكن لنا البدء بالتفكير في الكيفية التي أمكن فيها للجزيئيات أن تتفاعل فيما بينها بحيث تجمعت لتأخذ بنى شبيهة بالخلايا أو ما يعرف بـ " الخلايا الأولية " .
إن الأغشية التي تحيط بجميع الخلايا الحديثة تتكون أساسا من طبقة مزدوجة من الليبيدات : غطاء مضاعف من جزيئات زيتية كالفوسفوليبيدات والكوليستيرول . وتحافظ الأغشية على مكونات الخلايا مجتمعة مع بعضها في حيز فراغي واحد ، كما أنها تشكل حاجزا أمام المرور غير المنضبط للجزيئات الضخمة . وتتصرف بروتينات معقدة التركيب منغرسة في هذه الأغشية كحراس بوابات ، كما تقوم بضخ الجزيئات من وإلى الخلية ، في حين تساعد بروتينات أخرى على بناء وإصلاح الغشاء الخلوي . ولكن ، وكيف يمكن لخلية أولية غير متطورة ، تفتقر إلى الآليات البروتينية ، أن تقوم بهذه المهام ؟
وعلى الأغلب ، فإن الأغشية المخاطية كانت قد صنعت من جزيئات أبسط كالأحماض الدسمة ( وهي أحد مكونات الفوسفوليبيدات الأكثر تعقيدا ) وقد بينت دراسات أجريت في أواخر السبعينات أنه بإمكان الأغشية الخلوية بالفعل أن تتجمع تلقائيا ابتداءً من أحماض دسمة صرفة . ولكن الشعور العام كان أن هذه الأغشية قد تشكل حاجزا صعبا أمام عبور النيوكليوتيدات والمغذيات الأخرى المعقدة التركيب إلى داخل الخلية .
وقد أوحت هذه الفكرة أنه من أجل أن تتمكن الخلايا من تصنيع النيوكليوتيدات الخاصة بها كان لابد من تطور الأيض ( الاستقلاب ) الخلوي أولا . ولكن أظهر عمل نُفّذ في مختبرنا أنه في الحقيقة يمكن لجزيئات بضخامة النيوليوتيدات أن تنسل عبر الغشاء الخلوي شريطة أن يكون كل من الأغشية والنيوكليوتيدات ذات أشكال أبسط وأكثر بدائية من نظائرها الموجودة حاليا .
لقد أتاح لنا هذا الاكتشاف إجراء تجربة بسيطة تنمذج مقدرة الخلايا البدائية على نسخ المعلومات الجينية باستخدام مكونات غذائية ذات مصدر بيئي . وقمنا بتحضير حويصلات غشائية membrane vesicles أساسها الأحماض الدسمة وتحتوي بداخلها على قطعة قصيرة من الدنا الوحيد الجديلة . وكما في السابق ، يقوم الدنا هنا بدور مرصاف من أجل إنشاء جديلة جديدة متممة . وبعد ذلك قمنا بتعريض هذه الحويصلات لأشكال فعالة كيميائيا من النيوكليوتيدات . وقد عبرت النيوكليوتيدات الفشائية تلقائيا ، وما أن أصبحت داخل ما يمثل الخلية الأولية ( الحويصلة ) حتى انتظمت على جدية الدنا الموجودة داخل الخلية وتفاعلت كل واحد منها مع الأخرى مشكلة جديلة جديدة متممة . وتدعم هذه التجربة فكرة أن الخلايا الأولى احتوت الرنا ( أو على شبيه له ) ولا شيء آخر غيره ، وأنها تضاعف ( تنسخ ) مادتها الجينية من دون وجود لأية إنزيمات .
معضلة بناء متعضية من مواد غير حية :
يتطلع العلماء الذين يدرسون نشوء الحياة إلى بناء متعضية ذاتية التضاعف وذلك انطلاقا من مواد غير حية تماما . والتحدي الاكبر في هذا المضمار هو ايجاد جزيء جيني genetic molecule قادر على التضاعف الذاتي تلقائيا . ويقوم المؤلفان والمتعاونون معهما بتصميم وتركيب صيغ معدلة من الرنا والدنا بحثا عن هذه الخاصية المحيرة . وربما لا يكون الرنا بذاته هو الحل ، فضفائره المضاعفة لا تنفصل بسهولة لتصير جاهزة للتنسّخ ( للتضاعف ) ، إلا إذا كانت قصيرة جداً .
ليكن هناك انقسام :
حتى تتمكن الخلايا الأولية من التكاثر ، عليها أن تكون قادرة على النمو وأن تضاعف محتواها الجيني ، ومن ثم تنقسم إلى خلايا بنات للخلية الأم المتساوية في الحجم . وقد أظهرت التجارب أن الحويصلات البدائية يمكنها النمو على الأقل بطريقتين مميزتين . وفي إطار عمل رائد أجري في التسعينات ، قام " لويزي " وزملاؤه ( من المعهد الفيدرالي السويسري للتقانة في زيورخ ) بإضافة أحماض دهنية جديدة إلى الماء المحيط بهذه الحويصلات . وقد استجابت أغشية الحويصلات بالسماح بدخول هذه الأحماض الدهنية عبر أغشيتها ، ونمت مساحتها السطحية نتيجة لذلك . ومع استمرار الدخول البطيء للماء والمواد المنحلة فيه إلى داخل الخلايا ازادا أيضا حجمها .
وفي مقاربة ثانية ، جرى استكشافها في مختبرنا من قبل طالبة الدراسات العليا حينذاك " تشين " تضمنت التنافس بين خلايا أولية ، حيث أصبحت خلايا أولية نموذجية منتفخة نتيجة ملئها بالرنا أو بمادة شبيهة ، وهو تأثير حلولي osmotic ناتج من محاولة جزيئات الماء دخول الخلايا ومعادلة تركيزها داخل وخارج هذه الخلايا . وبذلك فإن غشاء مثل الحويصلات المنتفخة تعرّض لتوتر ، وهذا التوتر أدى إلى النمو ، وذلك لأن إضافة جزيئات جديدة تًهدئ من التوتر الحاصل على الأغشية ، منخفضة بذلك طاقة المنظومة . وفي الحقيقة ، إن الحويصلات المنتفخة نمت عن طريق سرعة الأحماض الدهنية من الحويصلات المسترخية المجاورة ، التي انكمشت نتيجة لذلك .
في عام 2008 ، لاحظ " زهو " ( وهو طالب دراسات عليا في مختبرنا ) نمو خلايا أولية نموذجية إثر تغذيتها بأحماض دهنية أضيفت حديثا . ولدهشتنا ، فإن الحويصلات التي كانت أساسا كروية الشكل لم تنمُ بحيث صارت أكبر حجما ، وإنما قامت ، بدلا من ذلك ، بمد استطالات رفيعة استمرت بالنمور طولا وازدادت ثخانتها ، محولة الحويصلة برمتها تدريجيا إلى أنبوب طويل رفيع . وقد كانت هذه البنية حساسة ، بحث إن هتزازا خفيف ( كذلك الذي مكن أن يحدث عندما تولد ريح خفيفة موجات على سطح بركة ما ) تسبب في تفتت الحويصلة إلى عدد من الخلايا البنات البدائية الصغيرة الحجم والكروية الشكل ، والتي نمت بدورها لتصبح أضخم وتعيد تكرار الدورة السابقة نفسها .
إذن ، عند توفر قوالب البناء المناسبة ، فإن تشكل الخلايا الأولية لايبدو أمرأ صعبا : فالأغشية تتشكل ذاتيا والبوليميرات الجينية تتشكل ذاتيا أيضا ، ويمكن جمع هذين المكونين معا بطرائق متنوعة ، مثلا ، كأن تتشكل الأغشية حول بوليميرات موجودة أصلا . كذلك ، فإن هذه الأكياس من الماء والرنا ستنمو أيضا ، وتمتص جزيئات جديدة ، وتتنافس على الغذاء ، وتنقسم . ولكنها من أجل أن تغدو حيّة فإنها ستحتاج أيضا إلى أن تتكاثر وتتطور . وعلى الأخص ، فإنها تحتاج إلى فصل جديلتي الرنا الموجودتين في داخلها إحداهما عن الأخرى بحيث تتمكن كل جديلة منفردة من أداء دور مرصاف لتشكيل جديلة جديد يمكن توريثها إلى خلية ابنة للخلية الأم .
لا يمكن أن تكون هذه العملية قد بدأت من تلقائها ، ولكن يمكن أن تكون قد جرت بقليل من المساعدة . تخيل مثلا ، منطقة بركانية على سطح الأرض الحديثة التشكل الذي تعُمُّه البرودة ( في ذلك الوقت ، كانت قوة الشمس الإشعاعية على سطح الأرض تعادل 70 % من قوتها الإشعاعية الحالية ) . لقد كان من الممكن حينذاك وجود برك صغيرة من الماء البارد ، وربما المغطى جزئيا بالجليد وبقي معظمه في شكل السائل بتأثير تماسه مع الصخور الساخنة .
والفروقات الحرارية ستتسبب في تشكيل تيارات حمل حراري ، بحيث إنه بين الحين والآخر ستتعرض الخلايا الأولية الموجودة في الماء إلى دفقة من الحرارة أثناء مرورها بالقرب من الصخور الحارة ، ولكنها ستعود وتبرد لحظيا مرة أخرى نتيجة لإختلاط الماء الساخن بالكتلة الأكبر من الماء البارد . كما أن التسخين المفاجئ سيتسبب في انفصال الحلزون المزدوج إلى جديلتين منفردتين . ولدى عودتها إلى المنطقة الباردة ، ونتيجة لقيام الجدائل المنفردة بدور مرصافات يمكن أن تتشكل جدائل مزدوجة جديدة - هي نسخ من الجدائل الأصلية .
وما إن دفعت البيئة الخلايا الأولية نحو التكاثر ، انطلق التطور ، وعلى الأخص حدثت في لحظات ما طفرات على بعض تسلسلات الرنا ، محولة إياها إلى إنزيمات ريبية سرّعت عملية نسخ الرنا مضيفة بذلك ميزة تنافسية . مما أدى في النهاية إلى بدء الإنزيمات الريبية بنسخ الرنا من دون الحاجة إلى أي مساعدة خارجية .
ومن السهل نسبيا تخيل الكيفية التي تطورت من خلالها خلايا أولية أساسها الرنا . يمكن أن يكون الأيض قد نشأ تدريجيا ، مع تمكين الإنزيمات الريبية للخلايا من تصنيع المواد المغذية داخيا ابتداءً من مواد أولية أبسط وأكثر وفرة ً . وبعد ذلك يمكن أن تكون المتعضيات قد أضافت صناعة البروتين إلى جعبة الخدع الكيميائية التي تمتلكها .
ونتيجة لمقدراتها المدهشة ، فلابد أن البروتينات كانت قد استولت على دور الرنا في المساعدة على النسخ الجيني والأيض وفيما بعد " تعلّمت " المتعضيات كيفية صناعة الدنا مكتسبة بذلك ميزة امتلاك حامل للمعلومات الجينية أكثر صلابة وقوة في تلك اللحظة ، أصبح عالمُ الرنا علما للدنا ، وبدأت معه الحياة كما نعرفها الآن .
______
المؤلفان Alonso Ricardo و Jack W.Szostak
"ريكاردو " ولد في كولومبيا ، وهو باحث زميل في معهد هاوارد هيوز الطبي بجامعة هارفرد . لديه اهتمام كبير بأصل الحياة وهو يدرس الآن الأنظمة الكيميائية الذاتية التضاعف .
"زوستاك" هو استاذ علم الوراثة في جامعة هارفرد . واهتمامه بالانشاء المختبري للبنى البيولوجية كوسيلة لاختبار فهمنا حول كيف تعمل عمل البيولوجيا . يعود إلى انشاء الكروموسومات الصنعية ، التي كان قد وصفها في العدد 1987/11 من مجلة ساينتفيك أميركان.
المصدر : مجلة العلوم الأميركية 2010 - المجلد 26 - العددان 3- 4 .
مصدر المقال المترجم: منتدى الملحدين العرب
ترجمة: ZIAD
0 تعليق(ات):
إرسال تعليق