من كتاب "التيارات الأساسية في الفكر الاجتماعي"
تأليف ريموند أرون - ترجمة samird (المقالة وليس كل الكتاب)
المصدر: منتدى الملحدين العرب
"الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو الكتاب الثالث لدوركايم وهو بلا شك أكثر كتبه أهمية وعمقا وأصالة، وهو برأيي الكتاب الذي تتجلى فيه روح المؤلف.
في هذا الكتاب يضع دوركايم نصب عينيه هدفا وهو تطوير نظرية عامة عن الدين، والتي تبلورت من خلال تحليل المؤسسات الدينية الأكثر بساطة وبدائية. من هذه الجملة فحسب نتعلم عن أحد الأفكار الرئيسية لدوركايم : من الجائز ومن الممكن أن نطور نظرية عن الأديان المتطورة اعتمادا على دراسة الدين في أشكاله الأساسية والبدائية. فالطوطمية(1) تكشف ماهية الدين. كل استنتاجات دوركايم من أبحاثه عن الطوطمية ترتكز على فرضية أنه من الممكن إدراك ماهية ظاهرة اجتماعية ما بناء على معاينة أشكالها الأساسية.
هناك سبب إضافي للأهمية البالغة للطوطمية في نظرية دوركايم. فهو يعتقد أن العلم، في أيامنا هذه، يحتل مركز السلطة الثقافية والأخلاقية العليا في المجتمعات الفردانية والعقلانية. من الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من العلم ولكن دون أن نكفر بأهميته أو أن نلغي قيمة الأشياء التي يعلمها. ومع ذلك، فإن المجتمع الذي يحدد ويكوّن ظروفا لانتشار الفردانية والعقلانية، يحتاج، كأي مجتمع آخر، إلى معتقدات جماعية. غير أنه يبدو أن الدين التقليدي، والذي لم يعد يلبي متطلبات الروح العلمية، لن يستطيع تلبية متطلبات هذه المعتقدات والإيمان.
والاستنتاج يبدو بسيطا عند دوركايم بل ومدهشا، إذا سمح لي أن أستخدم هذه الكلمة: أليس العلم ذاته هو من اكتشف أن الدين في أساسه هو تعبير عن المجتمع في صورة أخرى أو لباس آخر؟ وإذا كان صحيحا أن البشر، على مر التاريخ، عندما سجدوا للطوطم أو لله ، فهم قد مجّدوا في الواقع فقط واقعهم الجماعي الذي أخذ شكل الدين، وبذا يمكن الخروج من المتاهة. علم الدين يثبت أنه من الممكن بناء المعتقدات اللازمة للإجماع مجددا، صحيح أن العلم لا يكفي لتوليد إيمان جماعي، ولكنه يبقي فسحة أمل في أن المجتمعات المستقبلية تستطيع أن تكوّن لنفسها آلهة جديدة، حيث أن كل آلهة الماضي لم تكن سوى المجتمع بصورة مغايرة.
بهذا المفهوم يعطي دوركايم في كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" حلا لمشكلة التناقض بين الدين والعلم. فالعلم بحد ذاته، منذ أن اكتشف الماهية الحقيقية للأديان، فهو لا يكوّن دينا جديدا ولكنه يعزز الثقة في قدرة المجتمعات على أن تكوّن لها، في كل عصر، الآلهة التي تحتاج إليها. "المصالح الدينية ليست إلا صورة رمزية للمصالح الاجتماعية والأخلاقية."
أود القول أن من بين كل مؤلفات دوركايم، فإن كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو منتَج مساوٍ في قيمته ل"أسلوب السياسة الإيجابية" لأوغوست كونت. دوركايم لا يصف دين المجتمع بالطريقة التي وصف فيها "كونت" دينه الإنساني بتفصيل بالغ. بل هو يقول بوضوح أن "كونت" أخطأ في ادعائه بأن فردا واحدا يستطيع إنشاء دين وفرضه. حيث أنه إذا كان الدين إنتاجا جماعيا، فإن الادعاء بأن عالِم اجتماع واحد يقدر أن يكوّن دينا لا يستقيم مع هذه النظرية. ومع ذلك، إذا أراد دوركايم أن يثبت أن موضوع الدين ليس سوى المجتمع بصورة أخرى، من الممكن عندها أن نقارنه ب"كونت"، حيث أراد أن يؤسس دينه المستقبلي، زعم أن الإنسانية، حين قضت على الآلهة الغيبية، فهي تحب نفسها، أو الخير الكامن فيها باسم الإنسانية.
من الممكن بحث "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" من خلال ثلاثة نقاط معاينة، حيث أن الكتاب يحوي ثلاثة أنواع بحوث. فهو يحوي وصفا وتحليلا مفصلا عن مجموعة العشائر Clans وعن الطوطمية في داخل بعض القبائل الأسترالية، مع ذكر طفيف للقبائل الأمريكية. وفيه نظرية عن ماهية الدين التي تعتمد على بحوث الطوطمية الأسترالية. وفي النهاية يعطي تفسيرا سوسيوجيا للصور المختلفة للفكر الإنساني، أي مقدمة في علم الاجتماع الإدراكي.
من بين الثلاثة أفكار يحتل الأول أكبر مساحة، وهو البحث الذي يصف مجموعة العشائر والطوطمية. ولكن لن أتعمق فيه زيادة عن اللزوم إذ بالإمكان أن نلخص بإيجاز توصيفات دوركايم عن الموضوع.
الموضوع الثاني، أي تطوير نظرية عامة عن الدين اعتمادا على البحث الذي أجرته عن الطوطمية، هو ما يهمنا هنا. وفي هذا الكتاب يستعمل دوركايم نفس الأسلوب الذي اعتمده في كتبه السابقة، بداية هو يعرّف المشكلة، ثم يقوم بتفنيد النظريات حول نفس الموضوع والمخالفة لنظريته. وفي النهاية تأتي المرحلة الثالثة، والتي يبدي من خلالها الطبيعة الاجتماعية في ماهية الأديان.
(1) الطوطمية: مجموعة من المعتقدات وطقوس العبادة والتي بموجبها يكون الطوطم – كائن حي معين أو نبتة أو ظاهرة طبيعية أو رمزا لأحدها، يكون مرتبطا بمجموعة اجتماعية معينة برابطة فوق-طبيعية ويمثل الخصائص التي تميزها عن مجموعات أخرى، والتي تتمثل خصائصها بدورها في طوطميات أخرى. وفي حالات كثيرة يعد الطوطم كممثل لخصائص قبيلة معينة وللجد الأول لهذه القبيلة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
حسب دوركايم، ماهية الدين هي تقسيم العالم إلى ظواهر مقدسة وظواهر زمنية دنيوية. لبّ الدين ليس الإيمان بإله غيبي:
فهناك أديان، وحتى متطورة للغاية، دون أي إله. معظم المذاهب البوذية لا تؤمن بإله على هيئة البشر. لا يجدر أيضا تعريف الدين بمفاهيم ومصطلحات غامضة أو فوق-طبيعية،
حيث أن هذه المصطلحات تم تكوينها في مراحل متأخرة جدا. فالفوق-طبيعي ليس له وجود إلا بالنسبة للطبيعي، ولنصل إلى فهم واضح للطبيعي لا بد من منهج تفكير إيجابي وعلمي.
إذن مصطلح الفوق-طبيعي لا يستطيع أن يأتي قبل مصطلح النظام الطبيعي، والذي بحد ذاته مصطلح تطور في فترة متأخرة جدا.
العموم الديني مبني على تقسيم العالم إلى قسمين: المقدس والدنيوي. والمقدس مكون من مجموعة اشياء، من عقائد وطقوس. وإذا كان بين هذه الأمور المقدسة علاقات تنسيق وخضوع،
بحيث تكوّن منظومة موحدة نوعا ما وليست جزءا من أية منظومة أخرى من نوع مشابه، فإن هذا المجموع من العقائد والطقوس يشكّل دينا.
الدين مؤسس على الفرضية القائلة أنه في البدء كان المقدس، وبعد ذلك تم تنظيم العقائد حول المقدس وفي النهاية تأتي الطقوس والعادات، التي تنبع من العقائد بقدر ما من المنطق.
"الدين هو مجموعة من العقائد والعادات التي يوجد بينها علاقات متبادلة، مرتبطة بأشياء مقدسة، أي لأشياء منفردة ومحرمة،
العقائد والعادات توحد كل المؤمنين بها تحت قيادة أخلاقية واحدة تسمى كنيسة"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص65)
وبذا تمت إضافة مصطلح جديد لمصطلح المقدس ولمنظومة العقلئد لنستطيع تمييز الدين عن السحر الذي لا يحظى بالضرورة إلى الإجماع المتواجد لدى أتباع الكنيسة.
بعد أن عرّف دوركايم الدين هكذا، فهو يرفض في المرحلة التالية من دراسته، كل التفسيرات التي سبقته في هذا المضمار، التفسيرات التي تظهر في الفصل الأول من كتابه،
ألا وهي الانيمية animisme والطبعانية naturisme، والتي تظهر المفاهيم الرئيسية في الأديان البدائية.
حسب الأنيمية، فالإيمان الديني معناه الإيمان بالأرواح، والتي هي عبارة عن تجسد الشعور الداخلي الذي يحس فيه الإنسان بطبيعته المزدوجة - الجسد والنفس.
أما الطبعانية فأن المعبودات هي تجسد لقوى الطبيعة.
إن تفسير هذه النظريات ورفضها يأخد مدى طويلا، ولكن هناك فكرة واحدة في أساس نفدهما، وهي أنه لو تبنينا التفسير الأنيمي أو التفسير الطبعاني،
فإن دوركايم يعتقد ان موضوع الإيمان يذوب في هذه التفسيرات دون أن يتم إمساكه. فإذا كان الدين معناه حب الأرواح اللامحسوسة، أو قوى الطبيعة التي لبست شكلا معينا بسبب الخوف البشري،
فإنها أشبه بما يكون هذيانا جماعيا. وحقا: أي علم هذا الذي تكون نتيجته الفورية ذوبان حقيقة موضوع بحثه الأساسي.
بالمقابل، يحاول دوركايم أن ينقذ واقعية الدين بواسطة تفاسيره، إذا كان الإنسان يحب تجسد مجتمعه، فهو بذلك يحب واقعا ملموسا. أي شيء ملموس وواقعي من قوة الجماعية ذاتها؟
فالدين هو شعور داخلي ثابت وأعمق من أن يكون غير متوافق مع واقع ملموس. فإذا لم يكن هذا الواقع الملموس إلها، فيتوجب عليه أن يكون على الأقل واقعا موجودا في الدرجة التي تلي الإله، ألا وهي المجتمع.
إن هدف نظرية دوركايم حول الدين هي تأسيس حقيقة موضوع الإيمان من دون الاعتراف بالمضمون الذهني للأديان التقليدية. فهذه الأخيرة محكومة بالفناء في أعقاب التطور العقلاني والعلمي.
ولكن ذات العقلانية من الممكن ان تنقذ ما يحاول دوركايم هدمه لأول وهلة، فهو يبين أن البشر لم يمجدوا في الواقع شيئا سوى مجتمعهم.
لقد اعتمد دوركايم في بحثه عن الأمينية والطبعانية على مفاهيم تايلور Sir Edward Burnett Tylor وسبانسر Herbert Spencer، الذين كانا الأشهر في عصره.
نقطة الانطلاق في هذه المفاهيم هي ظاهرة الأحلام. ففي الحلم يرى الإنسان نفسه كأنه موجود في مكان لا يتواجد فيه حقيقة؛ فيخيل إليه عندئذ أن لديه شبيه ازدواجي لذاته ولجسمه،
وحينها من السهل عليه أن يتخيل أن هذا الشبيه الازدواجي ينفصل عنه وقت الموت، ليصبح روحا محلقة، أو ملاك طيب أو شرير.
إضافة لذلك فإن من الصعب على الإنسان البدائي أن يفرق بين الأشياء الحية والجمادات، لذا فهم يسكنون أرواح الموتى أو الأرواح المحلقة في أجسام محسوسة وحقيقية.
وبذا تتكون طقوس الأرواح العائلية وعبادة الآباء. من هذه الازدواجية بين الجسد والنفس، والتي مصدرها الحلم، تطور الأديان البدائية خليطا واسعا من الأرواح المحيطة بنا،
والتي تفعل الخير أو الشر.
في تفنيده المفصل، يفند دوركايم هذا التفسير عن طريق مهاجمة مركباته، واحدا تلو الآخر. لماذا يجب إعطاء الحلم هذه الأهمية؟ وإذا فرضنا ان الإنسان يدرك ذاته ككائن مزدوج،
لماذا يجب إضفاء القدسية على هذه الازدواجية؟ لماذا يجب السجود له وإعطاءه أكبر من قيمته؟ عبادة الآباء، حسب دوركايم ليست طقسا بدائيا، وليس صحيحا أن القبائل البدائية تسجد للأموات بشكل خاص.
عبادة الأموات ليست ظاهرة أولية.
بعد أن حدد دوركايم أن ماهية الدين هي المقدس، ليس من الصعب عليه أن يقف على نقاط الضعف للتفسير الأنيمي. هذا التفسير يستطيع أن يشرح تكوّن عالم الأرواح؛ وحقا، عالم الأرواح ليس عالما مقدسا.
الاساس وهو المقدس، يبقى غير مفهوم حسب التفسير الأنيمي. لا الطبيعة ولا عالم الأرواح تكتسب قدسية بذاتها. فقط المجتمع هو واقع مقدس بذاته، فهو ينتمي إلى المنظومة الطبيعية، ولكنه يتسامى فوق الطبيعة.
وهو أيضا المصدر لظاهرة الدين، والتبرير للتفرقة الطبيعية بين المقدس واللامقدس.
هنا يؤسس دوركايم العلم الحقيقي للأديان، والذي يحافظ على موضوع بحثه، على النقيض من العلوم الزائفة التي تميل إلى تذويبه:
"لا يجدر أن يخطر بالبال أن مجموعات من الافكار مثل الدين، والتي أدت دورا مهما للغاية على مر العصور، وعليها اعتمدت الشعوب في كل الأزمنة لأجل الحصول على القوة المطلوبة لبقائها،
لا يعقل أن تكون مجرد نسيج من الأوهام. نحن نعرف اليوم أن القضاء والأخلاق وحتى التفكير العلمي تولدت من الدين، وامتزجت به خلال فترة طويلة وبقيت متداخلة فيه.
كيف يمكن لرؤيا وهمية أن تشكّل بطريقة صلدة ولفترة زمنية طويلة فكر ومعرفة البشر؟
علم الأديان يعترف بالطبع بالمبدأ القائل أن الدين لا تعبر عن شيء غير موجود في الطبيعة، لأن العلم ليس إلا للظواهر الطبيعية فحسب.
السؤال الذي يتوجب الإجابة عليه هو من أي مملكة طبيعية جاءت هذه المحسوسات، ولماذا عبّر عنها البشر في هذه الطريقة المميزة للفكر الديني.
لذا، كي نستطيع أن نسأل السؤال، يجب أن نتفق أولا أن التعبير هنا عن أشياء ملموسة وحقيقية.
عندما اعلن فلاسفة القرن الثامن عشر أن الدين هو غلطة كبيرة تولدت في خيال الكهنة، فهم استطاعوا على الأكثر أن يفسروا استمرارية وجودها كمصلحة للكهنة في تضليل الشعوب.
ولكن إذا كان صحيحا ان الشعوب هي التي صنعت هذا الفكر المغلوط وكانت هي ضحيته، كيف استمر هذا الغش والتضليل أن يتواجد كل هذه الفترة من التاريخ...
أي علم هذا الذي نتيجته الرئيسية تؤدي إلى إلغاء الموضوع الذي يبحث فيه؟"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص98-99)
هذه جملة رائعة، ولكن أعتقد أن من ليس بعالم اجتماع أو ليس بعالم اجتماع من المذهب الدوركايمي، كان سيجيب قائلا:
هل علم الدين الذي يسجد فيه الناس للمجتمع، يحافظ على موضوع بحثه أم يؤدي إلى اختفائه؟ دوركايم، كعالم فذ، يعتقد أن علم الدين يبرز اللامحسوسية في الغيبي وفوق-الطبيعي.
ولكن هل يمكن أن نجد واقع الدين بعد أن سلبنا منه غيبيته؟
حسب رأي دوركايم، الطوطمية هي الدين الأكثر بساطة. وهذه الفكرة تلعب دورا مهما للغاية في فكره. فمن هذا الادعاء يتبين الفهم التطوري لتاريخ الدين.
فحسب الفهم اللاتطوري، تعتبر الطوطمية دينا واحدا من بين كثير من الأديان الأخرى ولا شيء غير ذلك. فإذا كان دوركايم يزعم أن الدين -الدين بأل التعريف-
الأكثر بساطة أو الأكثر أساسية، فإنه يقول بشكل غير مباشر أن الدين ينبع من مصدر واحد.
إضافة لذلك، لأجل فهم ماهية الدين حسب هذه الحالة الخاصة والمميزة للطوطمية، يجب تقبل الفكرة القائلة بأن شعورا داخليا واحدا تم اختياره بعناية،
يمكن أن يعبر عن ماهية ظاهرة مشتركة لكل المجتمعات. نظرية دوركايم عن الدين لم تتطور نتاجا لدراسة عدد كبير من الظواهر الدينية.
بل إن ماهية الدين يمكن فهمها بناء على حالة خاصة، تعدّ معبرة عن ماهية وجوهر كل الظواهر المشابهة والتابعة للنوع ذاته.
دوركايم يحلل هذا الدين الأكثر بساطة، عبادة الأوثان، بمساعدة المصطلحات كلان clan وطوطم. الكلان هو مجموعة من الاقارب لا تتصل بصلة الدم بالضرورة.
إنه مجموعة من الناس، وربما كانت الأبسط، تعبر عن هويتها بربط ذاتها بنبتة أو بكائن حي معين. عند القبائل الأسترالية يتم انتقال الطوطم الكلاني،
أي الطوطم المرتبط بالكلان، عن طريق الام بشكل عام. وليس لهذا الانتقال قانونية ثابتة، فعدا عن الطواطم المرتبطة بالكلان هنالك طواطم شخصية
وطواطم لمجموعات أكثر تطورا مثل الفراتريات phratry (مجموعة من الكلانات المرتبطة ببعضها) أو روابط أخرى تتكون بطريق الزواج.
لدى القبائل الأسترالية التي بحثها دوركايم، لكل طوطم إشارة أو رمز خاص. فتقريبا بكل كلان هنالك أغراض، مثل قطع خشبية أو حجارة مصقولة،
ترمز للطوطم وتحمل جزءا من القداسة المرتبطة به. من السهل علينا فهم هذه الظاهرة. ففي المجتمعات المعاصرة يوجد للعَلَم قيمة مساوية للchuriga عند الأستراليين.
فهو يحمل جزءا من القداسة التي يملكها الوطن. وتدنيسه مرتبط بظواهر معينه يحللها دوركايم في كتبه. الأغراض الطوطمية التي تحمل رمز الطوطم،
يجب أن تثير سلوكا يحمل طابعا دينيا، مثل الفرائض (افعل) أو المحرمات (لا تفعل). ففي حالة النواهي يتوجب على المنتمين للكلان أن يمتنعوا عن أكل الطوطم
أو لمسه أو لمس الأغراض التي تحمل قدسيته. وفي حالة الفرائض عليهم إبداء التبجيل والاحترام للطوطم بطريقة معروفة ومحددة.
وهكذا تكوّن في المجتمعات الأسترالية عالم من المقدسات يشمل أولا النباتات أو الحيوانات التي تشكل طوطما بذاتها، ثم بعد ذلك تأتي الأغراض الرامزة للطوطم.
وفي النهاية تنتقل القدسية لأفراد المجتمع نفسه. ويمكن الإيجاز بالقول، أن الواقع بكليّته ينقسم إلى فرعين أساسيين: الأشياء الدنيوية، تلك التي ننهج تجاهها سلوكا "اقتصاديا"،
حيث أن النشاط الاقتصادي هو نشاط دنيوي بشكل ظاهر؛ وفي المقابل هناك عالم متكامل من الأشياء المقدسة، نباتات، حيوانات، صور هذه النباتات والحيوانات،
وأفراد يرتبطون بهذه المقدسات في أعقاب انتمائهم للكلان. أي أن هذا عالم تم تنظيمه بقدر معين من المنهجية.
لأجل تفسير الطوطمية، يفند دوركايم أولا، كعادته، التفسيرات التي تفسر نشأة الطوطمية من دين أكثر بدائية. فهو يدحض التفسير الزاعم أن الطوطمية تطورت من عبادة الآباء،
أو التفسير الذي يرى في عبادة الحيوانات ظاهرة أكثر قِدَما. كذلك هو يرفض الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم الشخصي سبقت عبادة الطوطم الكلاني،
أو الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم المحلّي - نسبة الطوطم إلى مكان معين - كانت هي الظاهرة الأولى. فهو يعتقد أن عبادة الطوطم الكلاني كانت هي الدين الأول،
سواء كان ذلك من ناحية تاريخية أو منطقية. هذه الفرضية مهمة جدا، حيث أنها تبين الأسبقية أو الأولوية، للعبادة التي يوليها الأفراد للمجتمع بذاته.
المصدر الأول للطوطمية هو الاعتراف بالمقدس، والمقدس هو قوة مستعارة من المجتمع نفسه وهو أقوى من كل أفراده.
فيما يلي بعضا من نصوص دوركايم، والتي سوف توضح نظريته بشكل أفضل من ملاحظاتي عليها:
"الطوطمية ليست دينا لحيوانات معينة، أو لبشر معينين أو أوثان معينة، ولكنه قوة مجهولة غير شخصية، تتواجد في كل واحد من هذه الكائنات،
ولكنه لا يمتزج مع أي منها. ليس هناك من يمسك به بكامله، ولكن كل واحد منهم يشكل جزءا منه. فهو لا يتعلق بالأغراض أو الأفراد التي يتجسد بها،
فهو موجود قبلها، ويبقى بعدها. فالأفراد يموتون؛ والأجيال تتبدل، ولكن القوة تبقى جديدة أبدا، حيوية ومخلصة لذاتها. فهي تحرك جيل اليوم كما حركت
جيل الأمس وستحرك جيل الغد. فإذا أدركنا هذه الجملة بمفهومها الأوسع، يمكن القول أن الإله الذي يعبدونه في كل الطقوس الطوطمية،
ليس إلا إلها غير شخصي، من دون اسم، ومن دون تاريخ، ينطبع في عالم مشتت ويتواجد في أغراض غير معدودة."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص269)
هذه القطعة، والتي هي غاية في الجمال، تلائم تقريبا كل دين، توضح فكرة دوركايم بشكل مذهل: كل العقائد أو العادات الطوطمية تتشابه في ماهيتها لكل المعتقدات
ولكل العادات الدينية.
يعترف الأستراليون بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي.
تجاه هذه القوة المجهولة، المنطبعة في العالم والمتواجدة فوقه في ذات الوقت، يتوجه الأستراليون بعبادتهم وعقيدتهم. من السهل إسقاط هذه التعابير على أي دين متطور آخر.
ولكن، هنا يدور الحديث عن الطوطمية، والذي كان شكله الأول، بحسب دوركايم، هو طوطمية الكلان: لكي يكون هناك شيء مقدس، لا بد من أن يميز الفرد بين ما يتبع للدنيا
وبين ما يختلف عنه اختلافا جوهريا في ماهيته، ولذلك يكون مقدسا. هذه التفرقة تلائم الإدراك للإنسان البدائي، حيث أنه كجزء من المجتمع، يحس بوجود شيء ما يقف خارج حدود فردانيتهم.
هذا الشيء هو قوة المجتمع الذي كان موجودا قبل أن يولد الأفراد وسيبقى بعد موتهم، وحتى دون أن يعرفوه فهم يؤدون تجاهه طقوس العبادة.
"ينتشر لدى شعوب مالينيزيا مصطلح "مانا" mana والمساوي في قيمته للمصطلح "واكن" wakan لدى قبائل "سو" ول"أوريندا" orenda لقبيلة إيروكوي.
وفيما يلي تعريف كودرينغتون R. H. Codrington : الشعب المالينيزي يؤمن بوجود قوة تختلف تماما عن أية قوة محسوسة، تنشط في عدة أشكال، خيّرة أو شريرة،
ومن الجدير للفرد أن يضع يده على هذه القوة ويسيطر عليها. هذه القوة تسمى "مانا".
يخيل إلي أنني أدرك مفهوم هذه الكلمة لدى السكان المحليين... هذه القوة هي بمثابة تأثير غير فيزيائي أو حتى فوق-طبيعي؛
ومع ذلك فهي تتجلى بواسطة قوة فيزيائية، أو بواسطة أي نوع من القوة أو السيطرة؛
ال"مانا" ليس مرتبطا بغرض معين؛ ومن الممكن نقله لأغراض من أنواع شتى...
الغاية الوحيدة للدين المالينيزي هي الحصول على "مانا" من أجل استغلاله لأهداف شخصية، أو لكي يستغله الآخرون.
أليس هذا هو المصطلح ذاته عن القوة المجهولة والمشتتة والتي رأينا بودرها حاليا في الطوطمية الأسترالية؟"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص277)
في هذه القطعة، المصطلح المركزي في تفسير الدين هو قوة مجهولة ومشتتة أو منتشرة diffuse . المثال مأخوذ من المجتمعات المالينيزية. ولكن مجرد وجود نقاط التقاء في التحليلات
التي أجريت على عدة مجتمعات، يقوّي، برأي دوركابم، نظريته القائلة بأن مصدر الدين هو في التمييز بين المقدس والدنيوي، هذه النظرية تكون فيها القوة المجهولة والمنتشرة، متواجدة
فوق الأفراد، وقريبة منهم في نفس الوقت، وهي القِبلة الذي يتوجهون لها بالعبادة.
ولكن لماذا يتحول المجتمع إلى قِبلة للعبادة ومقصدا للعقائد؟ عن هذا السؤال يجيب دوركايم أن المجتمع، من حيث جوهره، له جانب مقدس.
"بشكل عام، ليس هتاك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بألوهيته؛ ذلك أن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين.
الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على أنه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل
"زيوس" أو "يهوه" ومن الممكن أن يكون قوى مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية؛ في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ
المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجتمع، يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية. ولأن له طابعا مختلفا، يختلف عن طبعنا كأفراد، فهو يطمح في أن يحقق غايات خاصة به:
ولكن، بسبب عدم قدرته على تحقيقها بدون وساطتنا، فهو يطلب بصرامة مساعدتنا. فهو يطلب أن ننسى مصالحنا وأن نصبح خدما له، فيما هو يفرض علينا متاعب وحرمانا وتضحيات،
بدونها تصبح الحياة المشتركة مستحيلة. ولذا نحن ملزمين بالخضوع لقواعد سلوكية وتفكيرية لم نصنعها ولم نرِدْها، وحتى أنها تتناقض أحيانا مع ميولنا ومع رغباتنا وغرائزنا الأساسية.
ومع هذا، لو تنازلنا وضحينا لأجل المجتمع بسبب قوة إلزامية من طرفه، من الممكن أن نفكر فقط بوجود قوة فيزيائية يجب الخضوع لها بالضرورة، وليس بفكرة وجود قوة أخلاقية
كتلك المقصودة في العبادة عند الأديان الأخرى. إن سيطرة وقوة المجتمع لا تتعلق بتفوقه من حيث قوته الفيزيائية التي يستطيع تشغيلها، ولكنها ترتبط بالقوة الأخلاقية التي يملكها.
فإذا انصعنا لأوامره، فليس ذلك بسبب كونه مسلحا يستطيع التغلب على مقاومتنا، وإنما بسبب احترامنا له."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص295-296)
يثير المجتمع لدينا شعور الربوبية. فهو يمثل أمرا مفروضا علينا وكذلك واقعا خاصا يقف فوق كل واحد منا، يتتطلب منا الاحترام والإخلاص والخضوع.
المجتمع كذلك يشكل أرضية خصبة لنمو العقائد ، لأن الأفراد المتقاربين والذين يعيشون بتوافق معا، يستطيعون في لحظات التسامي أن يخلقوا الألوهية.
فيما يلي فقرتان مثيرتان للاهتمام، وتظهران المميزات المذكورة آنفا. في إحداها يصف دوركايم مشاهد التسامي التي يحسها الأستراليون المنتمين للمجتمعات البدائية،
وفي الُثانية، يتطرق للثورة الفرنسية كصانعة ممكنة للدين. ها هي الفقرة عن الأستراليين:
"مع حلول الليل كانوا يقومون بعدة مسيرات، يرقصون ويغنون تحت ضوء المشاعل؛ والحماسة العامة تأخذ بالتعاظم. وفي لحظة ما، يمسك كل من المساعدين الإثني عشر
شعلة ملتهبة بيده، وأحدهم يمسك شعلته على هيئة حربة، ثم يبدأ بالتحرش بمجموعة من المشاركين. ويتم صد ضرباته بالعصي والرماح. عندها يختلط الحابل بالنابل.
يقفز الرجال وينتصبون، مطلقين صرخات وحشية؛ الشعلات يخفت ضوءها ثم يتوهج مجددا كلما اصطدمت برؤوسهم وأجسامهم، ويتناثر الشرر في كل اتجاه.
"الدخان والشعلات الملتهبة، ومطر الشرر المتناثر، والجماهير التي ترقص وتصرخ، كل هذه الأشياء تكوّن مشهدا بريا متوحشا لا يمكن توصيفه بالكلمات"
على حد قول سبانسر Spencer وغيلن Gillen (باحثي القبائل الأسترالية الذين اعتمد دوركايم على أبحاثهم)
ليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف أن الإنسان، حين يصل إلى هذه الدرجة من التسامي، لا يعود مدركا لذاته. ذلك أنه يحس أنه مسيّر ومنجرف في أعقاب قوة خارجية،
تجعله يفكر ويسلك سلوكا غير معتاد، من الواضح أن لديه الانطباع أنه ليس هو ذاته. يخيل إليه أنه كائن جديد: الزينة التي يتزين بها، وأنواع الأقنعة التي يغطي بها وجهه،
تجسد، بشكل ملموس، هذا التغيير الداخلي الذي يشعر به. وحيث أنه في نفس الموقف، يشعر جميع زملائه ذات الشعور بالتغيير، ويترجمون إحساسهم لصرخات، حركات
وسلوك مغاير، لأول وهلة يبدو أن كل شيء يحدث في عالم خاص يختلف بماهيته اختلافا جوهريا عن العالم الذي يحيون فيه على الدوام، وكل ذلك في بيئة حافلة بقوى عظيمة
جدا تخترقهم وتغيرهم. كيف يمكن لهذه الأحاسيس من هذا القبيل، وخاصة أنها تتكرر لعدة أسابيع، أن لا تزرع فيهم الإيمان بوجود عالمين منفصلين لا يوجد بينهما وجه شبه؟
الأول هو العالم الذي يدير فيه حياته اليومية. أما العالم الثاني فهولا يستطيع دخوله إلا إذا أقام قبل ذلك اتصالا مع القوى العجيبة التي تثير حماسته إلى حد الجنون. الأول
هو العالم الدنيوي الزمني، والثاني هو عالم الأشياء المقدسة. (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص311-313)
يبدو لي أن هذه القطعة هي التعبير القاطع عن وجهة نظر دوركايم. لنتخيل مجموعة كبيرة من الناس يرقصون ويصرخون في الوقت الذي يؤدون فيه طقوسا تشبه العيد أو العبادة، هذه المجموعة
هي مجموعة متقاربة بسبب العادات المشتركة أو الأفعال المتشابهة. الطقوس، والتي هو عبارة عن فعالية جماعية، تجعل كل فرد منهم يخرج من نطاق ذاته. تجعله جزءا من قوة المجموعة.
الطقوس تجعلهم يحسون بوجود شيء ما، ليس له قاسم مشترك مع روتين الحياة اليومية المتعبة والمملة. هذا الشيء الخاص والمميز والذي هو طبيعي وفوق-طبيعي معا، هو ذات القوة الجماعية.
وهو أيضا شيء مقدس. هذه الظواهر من الانفعال الحماسي هي مثال للعملية النفسية الاجتماعية التي تتولد منها الأديان.
قبل ذلك يورد دوركايم ذكر عبادة الثورة. في فترة الثورة الفرنسية اجتاح الأفراد نوع من الحماس الشبه-ديني. كلمات مثل "أمة" "حرية" و"ثورة" كانت مشحونة بقيم قداسية، يمكن تشبيهها
في القيمة الموجودة في الchuringa عند الاستراليين.
"إن ميل المجتمع لوضع نفسه في مكان الإله أو أن يوجد ألوهية خاصة به، قد ظهرت ببروز إبان السنين الأولى للثورة. في تلك اللحظات من الانجراف الحماسي، تحولت
بعض الأشياء، الدنيوية بطبعها، إلى أشياء مقدسةـ وذلك تحت تأثير الرأي العام؛ والقصد هو للوطن والحرية والحكمة. كل دين يميل لأن يكوّن لنفسه أيديولوجية خاصة به
وكذلك رموزا وهياكل وأعياد خاصة. كانت هناك محاولة لإضفاء صبغة رسمية لهذه التطلعات الطبيعية عن طريق عبادة الفهم والحكمة و الوجود السامي.
هذا الدين الجديد صمد لفترة وجيزة فقط، ولكن الحماس الوطني الذي جرف بدايةً جماهير غفيرة من الناس، أخذ يتضائل شيئا فشيئا. وعندما اختفى السبب، لم تستطع النتيجة
أن تصمد طويلا. ورغم استمراريتها القصيرة، ما زالت هذه التجربة تثير الاهتمام لدى السوسيولوجيين. بالإمكان إيجازها بأننا أدركنا أنه في حالة خاصة تحول المجتمع،
مع آرائه ومبادئه الرئيسية، بشكل مباشر ومن دون أن تحدث فيه تغييرات من أي نوع إلى غرض حقيقي للعبادة"
(Ibid. pp. 305-306 )
ومع ذلك ستحصل ثورات وانتفاضات جديدة، وسيحين الوقت لتنجرف المجتمعات المعاصرة مرة أخرى في الجنون الديني، لتتكون منه أديان جديدة. (مذكرات طقوس هتلر في نيرنبرغ تجعلنا
نضيف: لسوء الحظ!)
أنري برغسون (Henry Bergson) ينهي كتابه "مصدرا الأخلاق والدين" بهذه الجملة: "الكون هو ماكنة تنتج الآلهة" دوركايم كان سيقول: المجتمعات هي ماكنات تنتج الآلهة، ولكن لكي ينجح
هذا الجهد الإبداعي، من الضروري أن يهرب الأفراد من حياتهم اليومية، ويخرجوا من داخل ذاتهم وينجرفوا في حماسة مصدرها وتعبيرها معا هما تسامي النفس للحياة المشتركة.
التفسير الاجتماعي للدين، كما يراه دوركايم، يلبس إذن صورتين: الأولى تشدد على الفكرة أن الأفراد حسب الطوطمية يسجدون لمجتمعهم، دون معرفة أو لأن المقدس يرتبط قبل كل شيء
بالقوة الجماعية الغير شخصية التي تمثل المجتمع ذاته. حسب التفسير الثاني، تميل المجتمعات لإنتاج الآلهة أو الأديان عندما تكون في حالة تسام تنبع من قوة الحياة المجتمعية.
لدى القبائل الأسترالية، يحدث هذا التسامي أثناء الطقوس التي نستطيع مشاهدتها حتى هذه اللحظة. بينما في المجتمعات المعاصرة، يقول دوركايم، من دون أن يؤطر نظرية محددة،
يحدث هذا التسامي أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.
يطور دوركايم من هذه الأفكار الأساسية تفسيرات لمصطلحات "النفس"، "الروح" و "الله". ويتابع التطورات الذهنية لأشكال التمثيل الديني. الدين يعني مجموعة من العقائد، والعقائد ذاتها
يتم التعبير عنها بالكلمات، أي أنها تأخذ شكل فكر يحوي قدرا ما من المنهجية. دوركايم يبحث عن المدى الذي تصل إليه المنهجية في الطوطمية. فهو يريد أن يبين حدود المنهجية الذهنية في الطوطمية،
إضافة إلى إمكانية الانتقال من الطوطمية إلى الأديان الأكثر حداثة.
يوضح دوركايم أهمية نوعين من الظواهر الاجتماعية: الرموز والطقوس. عادات اجتماعية كثيرة لا تُوجَّه بالضرورة تجاه الأغراض ذاتها وإنما أيضا تجاه رموز هذه الأغراض. في الطوطمية،
لا تقع المحظورات على الحيوانات والنباتات الطوطمية فحسب، وإنما على الأغراض التي رسمت عليها الحيوانات والنباتات أيضا. وبشكل مشابه، لا تتوجه سلوكياتنا الاجتماعية اليومية تجاه
الأشياء ذاتها فقط وإنما على رموز هذه الأشياء أيضا. لقد تطرقت سابقا إلى كون العَلَم رمزا للوطن. الشعلة تحت قوس النصر بباريس هي ايضا رمز. المظاهرات الجمتهيرية مع أو ضد سياسات
معينة هي أيضا أفعال موجهة تجاه الرموز وتجاه الأشياء في آن واحد.
لقد طور دوركايم نظرية معقدة عن الطقوس الدينية، يوضح من خلالها أنواعها المختلفة وأدوارها العامة. وهو يفرق بين ثلاثة أنواع من الطقوس: طقوس سلبية وطقوس إيجابية وطقوس يسميها طقوس الكفارة.
تهتم الطقوس السلبية بالممنوعات بشكل رئيسي: حظر الأكل واللمس تتطور كعادة التقاليد الدينية الزاهدة والمتقشفة. بينما الطقوس الإيجابية هي طقوس اتحاد مع الرب، هدفها، مثلا، زيادة الخصوبة.
عادات الأكل تتبع أيضا للطقوس الإيجابية. يبحث دوركايم أيضا في طقوس المحاكاة والتقليد أو التمثيل، وفيها يحاكي المؤمنون أمورا يتمنون حدوثها. كل هذه الطقوس، سواء كانت سلبة أو إيجابية أو طقوس كفارة،
تلعب دورا اجتماعيا مهما. هدفها هو الحفاظ على بقاء المجتمع، وتحديث الشعور بالانتماء للمجموعة والمحافظة على العقيدة والدين. لا وجود للدين ألا بواسطة العادات، والتي هي رموز للعقائد وأيضا وسيلة لتجديدها.
نهاية، يستنتج دوركايم من بحثه عن الطوطمية، نظرية اجتماعية للإدراك. فهو لا يحصر نفسه في محاولة فهم عقائد وعادات القبائل الأسترالية، ولكن أيضا يحاول أن يفهم أنماط التفكير المرتبطة بالعقائد الدينية.
الدين ليس فقط النواة البدائية التي نبتت وتفرعت منها القواعد الأخلاقية والدينية بالمفهوم الضيق للكلمة، ولكنه أيضا النواة التي تتطور منها التفكير العلمي.
هذه النطرية الاجتماعية للإدراك تفترض برأيي ثلاث فرضيات:
1- الأشكال البدائية للتصنيف ترتبط بتصورات دينية عن الكون، نتجت من تمثيلات صنعتها المجتمعات المختلفة لنفسها، ومن ثنائية العالم الزمني الدنيوي والعالم الديني أو المقدس.
دوركايم يؤسس هذه الفرضية بعدة أمثلة.
"بشكل مجرد، لم يكن ليخطر ببالنا تقسيم الكائنات في العالم إلى مجموعات متجانسة، تسمى أنواعا أو أجناسا، لولا واجهنا المثال عن المجتمعات الإنسانية، ولولا كنا نتطرق إلى الأشياء نفسها كـأنها
أعضاء في المجتمع الإنساني، حيث لأنه قبل ذلككانت التصنيفات الإنسانية والمنطقية مختلطة ببعضها البعض. من جهة أخرى، هذا التصنيف هو أسلوب للتقسيم إلى مجموعات بترتيب هرمي.
هناك مجموعات مسيطرة، وهناك مجموعات خاضعة لها؛ تتعلق الأنواع وخصائصها المميزة بالأجناس والصفات التي تعرّفها. بكلمات أخرى تتواجد الأنواع المختلفة من نفس الجنس في المستوى نفسه."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص210)
بشكل عام، يعتقد دوركايم أنه تم تقسيم العالم إلى مجموعات تسمى أجناسا، لأننا رأينا قبالتنا المثال الذي يقدمه المجتمع الإنساني. في المجتمعات الإنسانية هنالك تقسيم منطقي لمجموعات، يقع بشكل مباشر على الأفراد.
عادة التقسيم هذه، يتم توسيعها لتمتد إلى الظواهر الطبيعية، وذلك لأننا نرى العالم على صورة المجتمع.
التصنيفات لمسيطرين وخاضعين، تتطور من محاكاة الهرمية الموجودة في المجتمع. فكرة الهرمية، الضرورية للتصنيف المنطقي للأجناس والأنواع، كان بالإمكان استعارتها، في الواقع، فقط من المجتمع نفسه.
"لا منظر الطبيعة المحسوسة، ولا أنظمة التخاطر التفكيري، كان باستطاعتهما إعطاءنا هذه الفكرة. الهرمية هي ظاهرة اجتماعية صرفة. فقط في المجتمع هناك علوي، سفلي ومساوٍ. لذا،
ورغم أن هذه الحقائق لا يمكن إثباتها، فإن مجرد تحليل هذه المصطلحات يكفي لكشف مصدرها. لقد استعرناها من المجتمع ثم أسقطناها على الصورة التي نرى فيها عالمنا.
المجتمع هو من زودنا بالخلفية التي تطور بناء عليها الفكر المنطقي."
(Ibid. p. 211 )
2- يدعي دوركايم أن فكرة مثل السببية مصدرها هو المجتمع، ولا يمكن أن تطون قد نبتت من مصدر آخر. الإحساس بالحياة الجماعية يولد فكرة القوة. المجتمع هو من يولد في البشر الإدراك
بوجود قوة هي فوق الأفراد.
3- في النهاية يحاول دوركايم جاهدا أن يثبت أن النظرية الاجتماعية للإدراك، كما يصفها هو، توفر الوسائل المطلوبة للتغلب على نظريات معاكسة مثل الإمبيرية empirism والأبريورية apriorism،
التناقض المشهور الذي يناقشونه في الفلسفة التي تدرس في المدارس، والذي درسه دوركايم في الكلية في مساق الفلسفة، والذي سندرسه لاحقا.
الإمبيرية هي النظرية التي تكون بحسبها الأصناف، والمفاهيم عامة، ناتجة مباشرة من تجربة حسية. بينما حسب الأبريورية، وضعت المصطلحات والأصناف في الروح الإنسانية منذ البدء. ومع هذا، يزعم دوركايم أن الإمبيرية خاطئة لأنه لا يستطيع أن يفسر كيف تنبع الأصناف والمفاهيم من معطيات الحواس، وكذا الأبريورية خاطئة لأنه لا تفسر شيئا، لأنها تضع في الروح الإنسانية، كمعطى أساسي وأولي، ماهية الشيء الواجب تفسيره. الدمج بين الطريقتين يتأتى من خلال تدخل المجتمع.
من الواضح بالنسبة للأبريورية، أن الحواس وحدها غير كافية لتوليد الأصناف أو المفاهيم، وأن هناك أمرا آخر غير الحواس في الروح الإنسانية. ولكن، لم تفهم الإمبيرية ولا الأبريورية أن لهذا الأمر، والذي هو أكثر من معطيات حسيةـ يجب أن يكون له مصدر وتفسير. الحياة الجماعية هي تمكّن من تفسير الأصناف والمفاهيم.
المفاهيم، بحسب النظرية العقلانية، هي تعبيرات غير شخصية، لأنها تعبيرات جماعية. والتفكير الجماعي يختلف بطبعه عن التفكير الفرداني، والمفاهيم هي تعبيرات تفرض نفسها على الأفراد لأنها تعبيرات جماعية. إضافة لذلك، تلبس المفاهيم زيا تعميميا، كونها تعبيرات جماعية. ففي الواقع لا يهتم المجتمع بالأفراد وبالأمور الخاصة. فهو الجهاز الذي تستسلم بواسطته الأفكار للعمومية، وفي الوقت ذاته، تجد الأفكار فيه السلطة النموذجية للمفاهيم والأصناف.
"المفاهيم هي الطريقة التي يعبر فيها المجتمع لنفسه عن الأشياء"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص626)
للعلم سلطة عليا علينا لأن المجتمع الذي نحيا فيه يريد ذلك.
"من الضروري أن تأخذ المفاهيم سلطتها من قيمتها الموضوعية وحسب، حتى حين تكون مبنية على
أسس غير علمية. فصحتها غير كافية لتصديقها. إذا لم تكن متلائمة مع العقائد الأخرى، مع الأفكار
الأخرى، وباختصار مع مجموع التعبيرات الجماعية، فسيتم رفضها. ولن تقبلها الخلائق،
وفي النهاية ستكون كأنها لم تكن. إذا كان اليوم كافيا لتصديق أمر ما، حمله لختم علمي، فهذا لأننا نثق بالعلم.
هذه الثقة لا تختلف بماهيتها عن الإيمان الديني. فالقيمة التي نعطيها للعلم تتعلق في النهاية، بالمفهوم
الذي نبنيه لأنفسنا بطريقة جماعية عن طبيعته وعن دوره في الحياة؛ معنى هذا، أن العلم يعبر عن
رأي عام معين. بالطبع، من الممكن أن نرى في الرأي العام موضوعا للبحث وأن نحوله إلى علم؛
هذا هو أساس اهتمامات السوسيولوجيا. ولكن، علم الرأي العام لا يشكل الرأي العام؛ فهو يستطيع أن
يوضحه ويجعله معروفا أكثر، لا غير. يستطيع العلم أن يصنع تغييرا في الرأي العام؛ ولكن العلم سيبقى
متعلقا بالرأي العام حتى لو خيّل إليه أنه يملي قوانينه؛ حيث أن العلم يستقي من الرأي العام القوة
اللازمة للتأثير عليه."
(Ibid. pp. 625-626 )
لو اختفى الإيمان بالعلم، على سبيل المثال، من مجتمع معين، فإن كل الإثباتات العلمية الحالية ستصبح بلا فائدة. هذه حجة مفهومة ضمنا، وسخيفة في نفس الوقت. حيث أنه من الواضح أن الإثباتات العلمية لن تقنع أحدا في اللحظة التي يتوقف الناس عن الإيمان بقيمتها. ولكن الحجج لن تفقد صحتها، حتى لو افترضنا أن الناس قرروا التصديق بكون الأبيض أسود، وكون الأسود أبيض. إذا كان الحديث يدور عن الإيمان كظاهرة نفسية سيكولوجية، فإن دوركايم محق تماما؛ أما إذا ما كان الحديث يدور عن الحقيقة من منظور منطقي أو علمي، فيبدو لي أنه مخطئ تماما.
خلا هذا البحث أكثرت من الاقتباسات، لأنني لم أكن واثقا من نفسي.أجد صعوبة معينة في اختراق نمط تفكير دوركايم، على ما يبدو بسبب انعدام الولع اللازم للفهم.
المجتمع بحسب دوركايم، هو واقعي ومثالي في آن واحد، ويصنع المثال من جوهر ماهيته. عندما أنظر للمجتمع على أنه مجموعة من الأفراد كما هو حال الكلان في المجتمعات الأسترالية – حيث أن المجتمع كواقع محسوس، يمكن إدراكه من الخارج، يتكون من الأفراد ومن الأغراض التي يستخدمونها – في هذه الحالة، أراه غير صحيح أن هذا المجتمع ، الذي هو واقع طبيعي، يمكن أن يكون أرضية خصبة لنمو العقائد. من الصعب أن نجد عادات دينية تكون خاصة بأفراد وحيدين. إضافة لذلك فإن كل الظواهر الإنسانية تعكس بعدا اجتماعيا، ولا يوجد دين معين خارج المجموعات التي ولد بها، أو خارج الجاليات المسماة كنائس. ولكن، إذا أضفنا لذلك كون المجتمع مثاليا عدا كونه واقعيا، وأن الأفراد الذين يعبدونه، فإنهم يسجدون لواقع غيبي، من الصعب علي تقبل ذلك؛ حيث أنه إذا كان محتوى الدين هو حب المجتمع القائم والمحسوس، يبدو لي أن هذا الحب هو نوع عبادة الأوثان، وفي هذه الحالة يكون الدين رؤية وهمية كما هو الحال في التفسير الأنيمي أو الطبعاني.
هناك إمكانيتان:
الإمكانية الأولى: أن المجتمع المتوجه إليه بالعبادة هو مجتمع موجود ومحسوس، يتكون من أفراد، وهو غير كامل لأن أفراده غير كاملين؛ وفي الحالة هذه فإن الأفراد الساجدين له هم ضحايا رؤية وهمية تماما كأولئك الساجدين للأشجار، الحيوانات، الأرواح أو الأنفس. إذا اعتبرنا المجتمع واقعا طبيعيا، فإن هذا التفسير لدوركايم لا "ينقذ" موضوع الدين أكثر من أي تفسر آخر.
الإمكانية الثانية: أن المجتمع كما يراه دوركايم ليس مجتمعا واقعيا، ولكنه مجتمع يختلف عن المجتمع الذي باستطاعتنا معاينته، وبهذه الحالة نترك مجال الطوطمية وندخل مجال الدين الإنساني على هيئة مفهوم أوغست كونت. فالمجتمع المتوجه إليه بالعبادة ليس واقعا محسوسا وإنما واقع مثالي يعبر عن المثال المتحقق بشكل غير كامل في المجتمع الحقيقي. وإذا كان الأمر كذلك، فليس المجتمع هو الذي يفسر تكوّن مفهوم "المقدس"، ولكن مفهوم "المقدس" الذي تكون في الفكر البشري، هو الذي يغير وجه المجتمع، كما يستطيع تغيير وجه كل واقع آخر.
يقول دوركايم أن المجتمع ينتج الدين في الأوقات التي تلتهب فيها الحماسة. هنا نتحدث عن حالة خاصة منفردة. فالأفراد موجودون في حالة نفسية يشعرون من خلالها بقوى غير شخصية، وهي جوهرية وغيبية في آن واحد.هذا التفسير للدين يؤدي إلى تفسير سببي بحسبه يساعد الحماس الاجتماعي بتولد الدين. ولكنهنا يسحب البساط من تحت الفكرة القائلة أن التفسير الاجتماعي للدين يمكّن من إنقاذ موضوع الدين بالقول أن الإنسان يسجد لما هو مستحق للعبادة. أيضا، نحن نخطئ بحديثنا عن المجتمع بصيغة المفرد، حيث أنه بحسب دوركايم نفسه هناك مجتمعات، بصيغة الجمع. إذا كانت العبادة موجهة نحو المجتمعات، فستكون هناك أديان قبلية أو قومية. وفي هذه الحالة تكون ماهية الدين ليست فقط إرساء الإخلاص المتشدد في نفوس الخلائق تجاه مجموعات صغيرة وتوجيه الإخلاص الفردي نحو مجتمعه، ولكن أيضا، توجيه كراهيته نحو المجتمعات الأخرى.
يبدو لي أن ليست هناك إمكانية لتعريف ماهية الدين كعبادة الفرد للمجموعة، فحسب رأيي، السجود للنظام الاجتماعي هو ماهية الكفر بالذات. الزعم بأن الأحاسيس الدينية موجهة نحو المجتمع بهيئة أخرى، هذا الأمر لا يعني إنقاذ التجربة الإنسانية التي تحاول السوسيولوجيا شرحها، ولكنه تقليل من قيمتها.
تأليف ريموند أرون - ترجمة samird (المقالة وليس كل الكتاب)
المصدر: منتدى الملحدين العرب
"الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو الكتاب الثالث لدوركايم وهو بلا شك أكثر كتبه أهمية وعمقا وأصالة، وهو برأيي الكتاب الذي تتجلى فيه روح المؤلف.
في هذا الكتاب يضع دوركايم نصب عينيه هدفا وهو تطوير نظرية عامة عن الدين، والتي تبلورت من خلال تحليل المؤسسات الدينية الأكثر بساطة وبدائية. من هذه الجملة فحسب نتعلم عن أحد الأفكار الرئيسية لدوركايم : من الجائز ومن الممكن أن نطور نظرية عن الأديان المتطورة اعتمادا على دراسة الدين في أشكاله الأساسية والبدائية. فالطوطمية(1) تكشف ماهية الدين. كل استنتاجات دوركايم من أبحاثه عن الطوطمية ترتكز على فرضية أنه من الممكن إدراك ماهية ظاهرة اجتماعية ما بناء على معاينة أشكالها الأساسية.
هناك سبب إضافي للأهمية البالغة للطوطمية في نظرية دوركايم. فهو يعتقد أن العلم، في أيامنا هذه، يحتل مركز السلطة الثقافية والأخلاقية العليا في المجتمعات الفردانية والعقلانية. من الممكن أن نذهب إلى ما هو أبعد من العلم ولكن دون أن نكفر بأهميته أو أن نلغي قيمة الأشياء التي يعلمها. ومع ذلك، فإن المجتمع الذي يحدد ويكوّن ظروفا لانتشار الفردانية والعقلانية، يحتاج، كأي مجتمع آخر، إلى معتقدات جماعية. غير أنه يبدو أن الدين التقليدي، والذي لم يعد يلبي متطلبات الروح العلمية، لن يستطيع تلبية متطلبات هذه المعتقدات والإيمان.
والاستنتاج يبدو بسيطا عند دوركايم بل ومدهشا، إذا سمح لي أن أستخدم هذه الكلمة: أليس العلم ذاته هو من اكتشف أن الدين في أساسه هو تعبير عن المجتمع في صورة أخرى أو لباس آخر؟ وإذا كان صحيحا أن البشر، على مر التاريخ، عندما سجدوا للطوطم أو لله ، فهم قد مجّدوا في الواقع فقط واقعهم الجماعي الذي أخذ شكل الدين، وبذا يمكن الخروج من المتاهة. علم الدين يثبت أنه من الممكن بناء المعتقدات اللازمة للإجماع مجددا، صحيح أن العلم لا يكفي لتوليد إيمان جماعي، ولكنه يبقي فسحة أمل في أن المجتمعات المستقبلية تستطيع أن تكوّن لنفسها آلهة جديدة، حيث أن كل آلهة الماضي لم تكن سوى المجتمع بصورة مغايرة.
بهذا المفهوم يعطي دوركايم في كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" حلا لمشكلة التناقض بين الدين والعلم. فالعلم بحد ذاته، منذ أن اكتشف الماهية الحقيقية للأديان، فهو لا يكوّن دينا جديدا ولكنه يعزز الثقة في قدرة المجتمعات على أن تكوّن لها، في كل عصر، الآلهة التي تحتاج إليها. "المصالح الدينية ليست إلا صورة رمزية للمصالح الاجتماعية والأخلاقية."
أود القول أن من بين كل مؤلفات دوركايم، فإن كتابه "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" هو منتَج مساوٍ في قيمته ل"أسلوب السياسة الإيجابية" لأوغوست كونت. دوركايم لا يصف دين المجتمع بالطريقة التي وصف فيها "كونت" دينه الإنساني بتفصيل بالغ. بل هو يقول بوضوح أن "كونت" أخطأ في ادعائه بأن فردا واحدا يستطيع إنشاء دين وفرضه. حيث أنه إذا كان الدين إنتاجا جماعيا، فإن الادعاء بأن عالِم اجتماع واحد يقدر أن يكوّن دينا لا يستقيم مع هذه النظرية. ومع ذلك، إذا أراد دوركايم أن يثبت أن موضوع الدين ليس سوى المجتمع بصورة أخرى، من الممكن عندها أن نقارنه ب"كونت"، حيث أراد أن يؤسس دينه المستقبلي، زعم أن الإنسانية، حين قضت على الآلهة الغيبية، فهي تحب نفسها، أو الخير الكامن فيها باسم الإنسانية.
من الممكن بحث "الأشكال الأساسية للحياة الدينية" من خلال ثلاثة نقاط معاينة، حيث أن الكتاب يحوي ثلاثة أنواع بحوث. فهو يحوي وصفا وتحليلا مفصلا عن مجموعة العشائر Clans وعن الطوطمية في داخل بعض القبائل الأسترالية، مع ذكر طفيف للقبائل الأمريكية. وفيه نظرية عن ماهية الدين التي تعتمد على بحوث الطوطمية الأسترالية. وفي النهاية يعطي تفسيرا سوسيوجيا للصور المختلفة للفكر الإنساني، أي مقدمة في علم الاجتماع الإدراكي.
من بين الثلاثة أفكار يحتل الأول أكبر مساحة، وهو البحث الذي يصف مجموعة العشائر والطوطمية. ولكن لن أتعمق فيه زيادة عن اللزوم إذ بالإمكان أن نلخص بإيجاز توصيفات دوركايم عن الموضوع.
الموضوع الثاني، أي تطوير نظرية عامة عن الدين اعتمادا على البحث الذي أجرته عن الطوطمية، هو ما يهمنا هنا. وفي هذا الكتاب يستعمل دوركايم نفس الأسلوب الذي اعتمده في كتبه السابقة، بداية هو يعرّف المشكلة، ثم يقوم بتفنيد النظريات حول نفس الموضوع والمخالفة لنظريته. وفي النهاية تأتي المرحلة الثالثة، والتي يبدي من خلالها الطبيعة الاجتماعية في ماهية الأديان.
(1) الطوطمية: مجموعة من المعتقدات وطقوس العبادة والتي بموجبها يكون الطوطم – كائن حي معين أو نبتة أو ظاهرة طبيعية أو رمزا لأحدها، يكون مرتبطا بمجموعة اجتماعية معينة برابطة فوق-طبيعية ويمثل الخصائص التي تميزها عن مجموعات أخرى، والتي تتمثل خصائصها بدورها في طوطميات أخرى. وفي حالات كثيرة يعد الطوطم كممثل لخصائص قبيلة معينة وللجد الأول لهذه القبيلة.
----------------------------------------------------------------------------------------------------------
حسب دوركايم، ماهية الدين هي تقسيم العالم إلى ظواهر مقدسة وظواهر زمنية دنيوية. لبّ الدين ليس الإيمان بإله غيبي:
فهناك أديان، وحتى متطورة للغاية، دون أي إله. معظم المذاهب البوذية لا تؤمن بإله على هيئة البشر. لا يجدر أيضا تعريف الدين بمفاهيم ومصطلحات غامضة أو فوق-طبيعية،
حيث أن هذه المصطلحات تم تكوينها في مراحل متأخرة جدا. فالفوق-طبيعي ليس له وجود إلا بالنسبة للطبيعي، ولنصل إلى فهم واضح للطبيعي لا بد من منهج تفكير إيجابي وعلمي.
إذن مصطلح الفوق-طبيعي لا يستطيع أن يأتي قبل مصطلح النظام الطبيعي، والذي بحد ذاته مصطلح تطور في فترة متأخرة جدا.
العموم الديني مبني على تقسيم العالم إلى قسمين: المقدس والدنيوي. والمقدس مكون من مجموعة اشياء، من عقائد وطقوس. وإذا كان بين هذه الأمور المقدسة علاقات تنسيق وخضوع،
بحيث تكوّن منظومة موحدة نوعا ما وليست جزءا من أية منظومة أخرى من نوع مشابه، فإن هذا المجموع من العقائد والطقوس يشكّل دينا.
الدين مؤسس على الفرضية القائلة أنه في البدء كان المقدس، وبعد ذلك تم تنظيم العقائد حول المقدس وفي النهاية تأتي الطقوس والعادات، التي تنبع من العقائد بقدر ما من المنطق.
"الدين هو مجموعة من العقائد والعادات التي يوجد بينها علاقات متبادلة، مرتبطة بأشياء مقدسة، أي لأشياء منفردة ومحرمة،
العقائد والعادات توحد كل المؤمنين بها تحت قيادة أخلاقية واحدة تسمى كنيسة"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص65)
وبذا تمت إضافة مصطلح جديد لمصطلح المقدس ولمنظومة العقلئد لنستطيع تمييز الدين عن السحر الذي لا يحظى بالضرورة إلى الإجماع المتواجد لدى أتباع الكنيسة.
بعد أن عرّف دوركايم الدين هكذا، فهو يرفض في المرحلة التالية من دراسته، كل التفسيرات التي سبقته في هذا المضمار، التفسيرات التي تظهر في الفصل الأول من كتابه،
ألا وهي الانيمية animisme والطبعانية naturisme، والتي تظهر المفاهيم الرئيسية في الأديان البدائية.
حسب الأنيمية، فالإيمان الديني معناه الإيمان بالأرواح، والتي هي عبارة عن تجسد الشعور الداخلي الذي يحس فيه الإنسان بطبيعته المزدوجة - الجسد والنفس.
أما الطبعانية فأن المعبودات هي تجسد لقوى الطبيعة.
إن تفسير هذه النظريات ورفضها يأخد مدى طويلا، ولكن هناك فكرة واحدة في أساس نفدهما، وهي أنه لو تبنينا التفسير الأنيمي أو التفسير الطبعاني،
فإن دوركايم يعتقد ان موضوع الإيمان يذوب في هذه التفسيرات دون أن يتم إمساكه. فإذا كان الدين معناه حب الأرواح اللامحسوسة، أو قوى الطبيعة التي لبست شكلا معينا بسبب الخوف البشري،
فإنها أشبه بما يكون هذيانا جماعيا. وحقا: أي علم هذا الذي تكون نتيجته الفورية ذوبان حقيقة موضوع بحثه الأساسي.
بالمقابل، يحاول دوركايم أن ينقذ واقعية الدين بواسطة تفاسيره، إذا كان الإنسان يحب تجسد مجتمعه، فهو بذلك يحب واقعا ملموسا. أي شيء ملموس وواقعي من قوة الجماعية ذاتها؟
فالدين هو شعور داخلي ثابت وأعمق من أن يكون غير متوافق مع واقع ملموس. فإذا لم يكن هذا الواقع الملموس إلها، فيتوجب عليه أن يكون على الأقل واقعا موجودا في الدرجة التي تلي الإله، ألا وهي المجتمع.
إن هدف نظرية دوركايم حول الدين هي تأسيس حقيقة موضوع الإيمان من دون الاعتراف بالمضمون الذهني للأديان التقليدية. فهذه الأخيرة محكومة بالفناء في أعقاب التطور العقلاني والعلمي.
ولكن ذات العقلانية من الممكن ان تنقذ ما يحاول دوركايم هدمه لأول وهلة، فهو يبين أن البشر لم يمجدوا في الواقع شيئا سوى مجتمعهم.
لقد اعتمد دوركايم في بحثه عن الأمينية والطبعانية على مفاهيم تايلور Sir Edward Burnett Tylor وسبانسر Herbert Spencer، الذين كانا الأشهر في عصره.
نقطة الانطلاق في هذه المفاهيم هي ظاهرة الأحلام. ففي الحلم يرى الإنسان نفسه كأنه موجود في مكان لا يتواجد فيه حقيقة؛ فيخيل إليه عندئذ أن لديه شبيه ازدواجي لذاته ولجسمه،
وحينها من السهل عليه أن يتخيل أن هذا الشبيه الازدواجي ينفصل عنه وقت الموت، ليصبح روحا محلقة، أو ملاك طيب أو شرير.
إضافة لذلك فإن من الصعب على الإنسان البدائي أن يفرق بين الأشياء الحية والجمادات، لذا فهم يسكنون أرواح الموتى أو الأرواح المحلقة في أجسام محسوسة وحقيقية.
وبذا تتكون طقوس الأرواح العائلية وعبادة الآباء. من هذه الازدواجية بين الجسد والنفس، والتي مصدرها الحلم، تطور الأديان البدائية خليطا واسعا من الأرواح المحيطة بنا،
والتي تفعل الخير أو الشر.
في تفنيده المفصل، يفند دوركايم هذا التفسير عن طريق مهاجمة مركباته، واحدا تلو الآخر. لماذا يجب إعطاء الحلم هذه الأهمية؟ وإذا فرضنا ان الإنسان يدرك ذاته ككائن مزدوج،
لماذا يجب إضفاء القدسية على هذه الازدواجية؟ لماذا يجب السجود له وإعطاءه أكبر من قيمته؟ عبادة الآباء، حسب دوركايم ليست طقسا بدائيا، وليس صحيحا أن القبائل البدائية تسجد للأموات بشكل خاص.
عبادة الأموات ليست ظاهرة أولية.
بعد أن حدد دوركايم أن ماهية الدين هي المقدس، ليس من الصعب عليه أن يقف على نقاط الضعف للتفسير الأنيمي. هذا التفسير يستطيع أن يشرح تكوّن عالم الأرواح؛ وحقا، عالم الأرواح ليس عالما مقدسا.
الاساس وهو المقدس، يبقى غير مفهوم حسب التفسير الأنيمي. لا الطبيعة ولا عالم الأرواح تكتسب قدسية بذاتها. فقط المجتمع هو واقع مقدس بذاته، فهو ينتمي إلى المنظومة الطبيعية، ولكنه يتسامى فوق الطبيعة.
وهو أيضا المصدر لظاهرة الدين، والتبرير للتفرقة الطبيعية بين المقدس واللامقدس.
هنا يؤسس دوركايم العلم الحقيقي للأديان، والذي يحافظ على موضوع بحثه، على النقيض من العلوم الزائفة التي تميل إلى تذويبه:
"لا يجدر أن يخطر بالبال أن مجموعات من الافكار مثل الدين، والتي أدت دورا مهما للغاية على مر العصور، وعليها اعتمدت الشعوب في كل الأزمنة لأجل الحصول على القوة المطلوبة لبقائها،
لا يعقل أن تكون مجرد نسيج من الأوهام. نحن نعرف اليوم أن القضاء والأخلاق وحتى التفكير العلمي تولدت من الدين، وامتزجت به خلال فترة طويلة وبقيت متداخلة فيه.
كيف يمكن لرؤيا وهمية أن تشكّل بطريقة صلدة ولفترة زمنية طويلة فكر ومعرفة البشر؟
علم الأديان يعترف بالطبع بالمبدأ القائل أن الدين لا تعبر عن شيء غير موجود في الطبيعة، لأن العلم ليس إلا للظواهر الطبيعية فحسب.
السؤال الذي يتوجب الإجابة عليه هو من أي مملكة طبيعية جاءت هذه المحسوسات، ولماذا عبّر عنها البشر في هذه الطريقة المميزة للفكر الديني.
لذا، كي نستطيع أن نسأل السؤال، يجب أن نتفق أولا أن التعبير هنا عن أشياء ملموسة وحقيقية.
عندما اعلن فلاسفة القرن الثامن عشر أن الدين هو غلطة كبيرة تولدت في خيال الكهنة، فهم استطاعوا على الأكثر أن يفسروا استمرارية وجودها كمصلحة للكهنة في تضليل الشعوب.
ولكن إذا كان صحيحا ان الشعوب هي التي صنعت هذا الفكر المغلوط وكانت هي ضحيته، كيف استمر هذا الغش والتضليل أن يتواجد كل هذه الفترة من التاريخ...
أي علم هذا الذي نتيجته الرئيسية تؤدي إلى إلغاء الموضوع الذي يبحث فيه؟"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص98-99)
هذه جملة رائعة، ولكن أعتقد أن من ليس بعالم اجتماع أو ليس بعالم اجتماع من المذهب الدوركايمي، كان سيجيب قائلا:
هل علم الدين الذي يسجد فيه الناس للمجتمع، يحافظ على موضوع بحثه أم يؤدي إلى اختفائه؟ دوركايم، كعالم فذ، يعتقد أن علم الدين يبرز اللامحسوسية في الغيبي وفوق-الطبيعي.
ولكن هل يمكن أن نجد واقع الدين بعد أن سلبنا منه غيبيته؟
حسب رأي دوركايم، الطوطمية هي الدين الأكثر بساطة. وهذه الفكرة تلعب دورا مهما للغاية في فكره. فمن هذا الادعاء يتبين الفهم التطوري لتاريخ الدين.
فحسب الفهم اللاتطوري، تعتبر الطوطمية دينا واحدا من بين كثير من الأديان الأخرى ولا شيء غير ذلك. فإذا كان دوركايم يزعم أن الدين -الدين بأل التعريف-
الأكثر بساطة أو الأكثر أساسية، فإنه يقول بشكل غير مباشر أن الدين ينبع من مصدر واحد.
إضافة لذلك، لأجل فهم ماهية الدين حسب هذه الحالة الخاصة والمميزة للطوطمية، يجب تقبل الفكرة القائلة بأن شعورا داخليا واحدا تم اختياره بعناية،
يمكن أن يعبر عن ماهية ظاهرة مشتركة لكل المجتمعات. نظرية دوركايم عن الدين لم تتطور نتاجا لدراسة عدد كبير من الظواهر الدينية.
بل إن ماهية الدين يمكن فهمها بناء على حالة خاصة، تعدّ معبرة عن ماهية وجوهر كل الظواهر المشابهة والتابعة للنوع ذاته.
دوركايم يحلل هذا الدين الأكثر بساطة، عبادة الأوثان، بمساعدة المصطلحات كلان clan وطوطم. الكلان هو مجموعة من الاقارب لا تتصل بصلة الدم بالضرورة.
إنه مجموعة من الناس، وربما كانت الأبسط، تعبر عن هويتها بربط ذاتها بنبتة أو بكائن حي معين. عند القبائل الأسترالية يتم انتقال الطوطم الكلاني،
أي الطوطم المرتبط بالكلان، عن طريق الام بشكل عام. وليس لهذا الانتقال قانونية ثابتة، فعدا عن الطواطم المرتبطة بالكلان هنالك طواطم شخصية
وطواطم لمجموعات أكثر تطورا مثل الفراتريات phratry (مجموعة من الكلانات المرتبطة ببعضها) أو روابط أخرى تتكون بطريق الزواج.
لدى القبائل الأسترالية التي بحثها دوركايم، لكل طوطم إشارة أو رمز خاص. فتقريبا بكل كلان هنالك أغراض، مثل قطع خشبية أو حجارة مصقولة،
ترمز للطوطم وتحمل جزءا من القداسة المرتبطة به. من السهل علينا فهم هذه الظاهرة. ففي المجتمعات المعاصرة يوجد للعَلَم قيمة مساوية للchuriga عند الأستراليين.
فهو يحمل جزءا من القداسة التي يملكها الوطن. وتدنيسه مرتبط بظواهر معينه يحللها دوركايم في كتبه. الأغراض الطوطمية التي تحمل رمز الطوطم،
يجب أن تثير سلوكا يحمل طابعا دينيا، مثل الفرائض (افعل) أو المحرمات (لا تفعل). ففي حالة النواهي يتوجب على المنتمين للكلان أن يمتنعوا عن أكل الطوطم
أو لمسه أو لمس الأغراض التي تحمل قدسيته. وفي حالة الفرائض عليهم إبداء التبجيل والاحترام للطوطم بطريقة معروفة ومحددة.
وهكذا تكوّن في المجتمعات الأسترالية عالم من المقدسات يشمل أولا النباتات أو الحيوانات التي تشكل طوطما بذاتها، ثم بعد ذلك تأتي الأغراض الرامزة للطوطم.
وفي النهاية تنتقل القدسية لأفراد المجتمع نفسه. ويمكن الإيجاز بالقول، أن الواقع بكليّته ينقسم إلى فرعين أساسيين: الأشياء الدنيوية، تلك التي ننهج تجاهها سلوكا "اقتصاديا"،
حيث أن النشاط الاقتصادي هو نشاط دنيوي بشكل ظاهر؛ وفي المقابل هناك عالم متكامل من الأشياء المقدسة، نباتات، حيوانات، صور هذه النباتات والحيوانات،
وأفراد يرتبطون بهذه المقدسات في أعقاب انتمائهم للكلان. أي أن هذا عالم تم تنظيمه بقدر معين من المنهجية.
لأجل تفسير الطوطمية، يفند دوركايم أولا، كعادته، التفسيرات التي تفسر نشأة الطوطمية من دين أكثر بدائية. فهو يدحض التفسير الزاعم أن الطوطمية تطورت من عبادة الآباء،
أو التفسير الذي يرى في عبادة الحيوانات ظاهرة أكثر قِدَما. كذلك هو يرفض الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم الشخصي سبقت عبادة الطوطم الكلاني،
أو الفكرة القائلة أن عبادة الطوطم المحلّي - نسبة الطوطم إلى مكان معين - كانت هي الظاهرة الأولى. فهو يعتقد أن عبادة الطوطم الكلاني كانت هي الدين الأول،
سواء كان ذلك من ناحية تاريخية أو منطقية. هذه الفرضية مهمة جدا، حيث أنها تبين الأسبقية أو الأولوية، للعبادة التي يوليها الأفراد للمجتمع بذاته.
المصدر الأول للطوطمية هو الاعتراف بالمقدس، والمقدس هو قوة مستعارة من المجتمع نفسه وهو أقوى من كل أفراده.
فيما يلي بعضا من نصوص دوركايم، والتي سوف توضح نظريته بشكل أفضل من ملاحظاتي عليها:
"الطوطمية ليست دينا لحيوانات معينة، أو لبشر معينين أو أوثان معينة، ولكنه قوة مجهولة غير شخصية، تتواجد في كل واحد من هذه الكائنات،
ولكنه لا يمتزج مع أي منها. ليس هناك من يمسك به بكامله، ولكن كل واحد منهم يشكل جزءا منه. فهو لا يتعلق بالأغراض أو الأفراد التي يتجسد بها،
فهو موجود قبلها، ويبقى بعدها. فالأفراد يموتون؛ والأجيال تتبدل، ولكن القوة تبقى جديدة أبدا، حيوية ومخلصة لذاتها. فهي تحرك جيل اليوم كما حركت
جيل الأمس وستحرك جيل الغد. فإذا أدركنا هذه الجملة بمفهومها الأوسع، يمكن القول أن الإله الذي يعبدونه في كل الطقوس الطوطمية،
ليس إلا إلها غير شخصي، من دون اسم، ومن دون تاريخ، ينطبع في عالم مشتت ويتواجد في أغراض غير معدودة."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص269)
هذه القطعة، والتي هي غاية في الجمال، تلائم تقريبا كل دين، توضح فكرة دوركايم بشكل مذهل: كل العقائد أو العادات الطوطمية تتشابه في ماهيتها لكل المعتقدات
ولكل العادات الدينية.
يعترف الأستراليون بقوة مجهولة تتواجد خارج العالم الزمني الدنيوي، هذه القوة المجهولة واللاشخصية والتي تتجسد دون تمييز في نبتة أو كائن حي أو في رمز لنبتة أو لكائن حي.
تجاه هذه القوة المجهولة، المنطبعة في العالم والمتواجدة فوقه في ذات الوقت، يتوجه الأستراليون بعبادتهم وعقيدتهم. من السهل إسقاط هذه التعابير على أي دين متطور آخر.
ولكن، هنا يدور الحديث عن الطوطمية، والذي كان شكله الأول، بحسب دوركايم، هو طوطمية الكلان: لكي يكون هناك شيء مقدس، لا بد من أن يميز الفرد بين ما يتبع للدنيا
وبين ما يختلف عنه اختلافا جوهريا في ماهيته، ولذلك يكون مقدسا. هذه التفرقة تلائم الإدراك للإنسان البدائي، حيث أنه كجزء من المجتمع، يحس بوجود شيء ما يقف خارج حدود فردانيتهم.
هذا الشيء هو قوة المجتمع الذي كان موجودا قبل أن يولد الأفراد وسيبقى بعد موتهم، وحتى دون أن يعرفوه فهم يؤدون تجاهه طقوس العبادة.
"ينتشر لدى شعوب مالينيزيا مصطلح "مانا" mana والمساوي في قيمته للمصطلح "واكن" wakan لدى قبائل "سو" ول"أوريندا" orenda لقبيلة إيروكوي.
وفيما يلي تعريف كودرينغتون R. H. Codrington : الشعب المالينيزي يؤمن بوجود قوة تختلف تماما عن أية قوة محسوسة، تنشط في عدة أشكال، خيّرة أو شريرة،
ومن الجدير للفرد أن يضع يده على هذه القوة ويسيطر عليها. هذه القوة تسمى "مانا".
يخيل إلي أنني أدرك مفهوم هذه الكلمة لدى السكان المحليين... هذه القوة هي بمثابة تأثير غير فيزيائي أو حتى فوق-طبيعي؛
ومع ذلك فهي تتجلى بواسطة قوة فيزيائية، أو بواسطة أي نوع من القوة أو السيطرة؛
ال"مانا" ليس مرتبطا بغرض معين؛ ومن الممكن نقله لأغراض من أنواع شتى...
الغاية الوحيدة للدين المالينيزي هي الحصول على "مانا" من أجل استغلاله لأهداف شخصية، أو لكي يستغله الآخرون.
أليس هذا هو المصطلح ذاته عن القوة المجهولة والمشتتة والتي رأينا بودرها حاليا في الطوطمية الأسترالية؟"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص277)
في هذه القطعة، المصطلح المركزي في تفسير الدين هو قوة مجهولة ومشتتة أو منتشرة diffuse . المثال مأخوذ من المجتمعات المالينيزية. ولكن مجرد وجود نقاط التقاء في التحليلات
التي أجريت على عدة مجتمعات، يقوّي، برأي دوركابم، نظريته القائلة بأن مصدر الدين هو في التمييز بين المقدس والدنيوي، هذه النظرية تكون فيها القوة المجهولة والمنتشرة، متواجدة
فوق الأفراد، وقريبة منهم في نفس الوقت، وهي القِبلة الذي يتوجهون لها بالعبادة.
ولكن لماذا يتحول المجتمع إلى قِبلة للعبادة ومقصدا للعقائد؟ عن هذا السؤال يجيب دوركايم أن المجتمع، من حيث جوهره، له جانب مقدس.
"بشكل عام، ليس هتاك شك بأن المجتمع من حيث قوة تأثيره، يلبي كل المتطلبات التي تثير لدى الخلائق الشعور بألوهيته؛ ذلك أن المجتمع بالنسبة لأفراده يشكل ما يشبه الإله للمؤمنين.
الله قبل كل شيء هو كيان يتخيله الإنسان على أنه أفضل منه بنواح عدة، ويخيل إليه أن هناك علاقة تبعية تربطه به. هذا الإله من الممكن أن يكون شخصية ذات وعي وإدراك مثل
"زيوس" أو "يهوه" ومن الممكن أن يكون قوى مجردة ومبسطة كما هو الحال في الطوطمية؛ في كل هذه الحالات، يعتقد المؤمن أن عليه أن يسلك سلوكا معينا يفرضه عليه المبدأ
المقدس الذي يرتبط به. كذلك المجتمع، يثير لدينا إحساسا من علاقة التبعية الأبدية. ولأن له طابعا مختلفا، يختلف عن طبعنا كأفراد، فهو يطمح في أن يحقق غايات خاصة به:
ولكن، بسبب عدم قدرته على تحقيقها بدون وساطتنا، فهو يطلب بصرامة مساعدتنا. فهو يطلب أن ننسى مصالحنا وأن نصبح خدما له، فيما هو يفرض علينا متاعب وحرمانا وتضحيات،
بدونها تصبح الحياة المشتركة مستحيلة. ولذا نحن ملزمين بالخضوع لقواعد سلوكية وتفكيرية لم نصنعها ولم نرِدْها، وحتى أنها تتناقض أحيانا مع ميولنا ومع رغباتنا وغرائزنا الأساسية.
ومع هذا، لو تنازلنا وضحينا لأجل المجتمع بسبب قوة إلزامية من طرفه، من الممكن أن نفكر فقط بوجود قوة فيزيائية يجب الخضوع لها بالضرورة، وليس بفكرة وجود قوة أخلاقية
كتلك المقصودة في العبادة عند الأديان الأخرى. إن سيطرة وقوة المجتمع لا تتعلق بتفوقه من حيث قوته الفيزيائية التي يستطيع تشغيلها، ولكنها ترتبط بالقوة الأخلاقية التي يملكها.
فإذا انصعنا لأوامره، فليس ذلك بسبب كونه مسلحا يستطيع التغلب على مقاومتنا، وإنما بسبب احترامنا له."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص295-296)
يثير المجتمع لدينا شعور الربوبية. فهو يمثل أمرا مفروضا علينا وكذلك واقعا خاصا يقف فوق كل واحد منا، يتتطلب منا الاحترام والإخلاص والخضوع.
المجتمع كذلك يشكل أرضية خصبة لنمو العقائد ، لأن الأفراد المتقاربين والذين يعيشون بتوافق معا، يستطيعون في لحظات التسامي أن يخلقوا الألوهية.
فيما يلي فقرتان مثيرتان للاهتمام، وتظهران المميزات المذكورة آنفا. في إحداها يصف دوركايم مشاهد التسامي التي يحسها الأستراليون المنتمين للمجتمعات البدائية،
وفي الُثانية، يتطرق للثورة الفرنسية كصانعة ممكنة للدين. ها هي الفقرة عن الأستراليين:
"مع حلول الليل كانوا يقومون بعدة مسيرات، يرقصون ويغنون تحت ضوء المشاعل؛ والحماسة العامة تأخذ بالتعاظم. وفي لحظة ما، يمسك كل من المساعدين الإثني عشر
شعلة ملتهبة بيده، وأحدهم يمسك شعلته على هيئة حربة، ثم يبدأ بالتحرش بمجموعة من المشاركين. ويتم صد ضرباته بالعصي والرماح. عندها يختلط الحابل بالنابل.
يقفز الرجال وينتصبون، مطلقين صرخات وحشية؛ الشعلات يخفت ضوءها ثم يتوهج مجددا كلما اصطدمت برؤوسهم وأجسامهم، ويتناثر الشرر في كل اتجاه.
"الدخان والشعلات الملتهبة، ومطر الشرر المتناثر، والجماهير التي ترقص وتصرخ، كل هذه الأشياء تكوّن مشهدا بريا متوحشا لا يمكن توصيفه بالكلمات"
على حد قول سبانسر Spencer وغيلن Gillen (باحثي القبائل الأسترالية الذين اعتمد دوركايم على أبحاثهم)
ليس من الصعوبة بمكان أن نرى كيف أن الإنسان، حين يصل إلى هذه الدرجة من التسامي، لا يعود مدركا لذاته. ذلك أنه يحس أنه مسيّر ومنجرف في أعقاب قوة خارجية،
تجعله يفكر ويسلك سلوكا غير معتاد، من الواضح أن لديه الانطباع أنه ليس هو ذاته. يخيل إليه أنه كائن جديد: الزينة التي يتزين بها، وأنواع الأقنعة التي يغطي بها وجهه،
تجسد، بشكل ملموس، هذا التغيير الداخلي الذي يشعر به. وحيث أنه في نفس الموقف، يشعر جميع زملائه ذات الشعور بالتغيير، ويترجمون إحساسهم لصرخات، حركات
وسلوك مغاير، لأول وهلة يبدو أن كل شيء يحدث في عالم خاص يختلف بماهيته اختلافا جوهريا عن العالم الذي يحيون فيه على الدوام، وكل ذلك في بيئة حافلة بقوى عظيمة
جدا تخترقهم وتغيرهم. كيف يمكن لهذه الأحاسيس من هذا القبيل، وخاصة أنها تتكرر لعدة أسابيع، أن لا تزرع فيهم الإيمان بوجود عالمين منفصلين لا يوجد بينهما وجه شبه؟
الأول هو العالم الذي يدير فيه حياته اليومية. أما العالم الثاني فهولا يستطيع دخوله إلا إذا أقام قبل ذلك اتصالا مع القوى العجيبة التي تثير حماسته إلى حد الجنون. الأول
هو العالم الدنيوي الزمني، والثاني هو عالم الأشياء المقدسة. (الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص311-313)
يبدو لي أن هذه القطعة هي التعبير القاطع عن وجهة نظر دوركايم. لنتخيل مجموعة كبيرة من الناس يرقصون ويصرخون في الوقت الذي يؤدون فيه طقوسا تشبه العيد أو العبادة، هذه المجموعة
هي مجموعة متقاربة بسبب العادات المشتركة أو الأفعال المتشابهة. الطقوس، والتي هو عبارة عن فعالية جماعية، تجعل كل فرد منهم يخرج من نطاق ذاته. تجعله جزءا من قوة المجموعة.
الطقوس تجعلهم يحسون بوجود شيء ما، ليس له قاسم مشترك مع روتين الحياة اليومية المتعبة والمملة. هذا الشيء الخاص والمميز والذي هو طبيعي وفوق-طبيعي معا، هو ذات القوة الجماعية.
وهو أيضا شيء مقدس. هذه الظواهر من الانفعال الحماسي هي مثال للعملية النفسية الاجتماعية التي تتولد منها الأديان.
قبل ذلك يورد دوركايم ذكر عبادة الثورة. في فترة الثورة الفرنسية اجتاح الأفراد نوع من الحماس الشبه-ديني. كلمات مثل "أمة" "حرية" و"ثورة" كانت مشحونة بقيم قداسية، يمكن تشبيهها
في القيمة الموجودة في الchuringa عند الاستراليين.
"إن ميل المجتمع لوضع نفسه في مكان الإله أو أن يوجد ألوهية خاصة به، قد ظهرت ببروز إبان السنين الأولى للثورة. في تلك اللحظات من الانجراف الحماسي، تحولت
بعض الأشياء، الدنيوية بطبعها، إلى أشياء مقدسةـ وذلك تحت تأثير الرأي العام؛ والقصد هو للوطن والحرية والحكمة. كل دين يميل لأن يكوّن لنفسه أيديولوجية خاصة به
وكذلك رموزا وهياكل وأعياد خاصة. كانت هناك محاولة لإضفاء صبغة رسمية لهذه التطلعات الطبيعية عن طريق عبادة الفهم والحكمة و الوجود السامي.
هذا الدين الجديد صمد لفترة وجيزة فقط، ولكن الحماس الوطني الذي جرف بدايةً جماهير غفيرة من الناس، أخذ يتضائل شيئا فشيئا. وعندما اختفى السبب، لم تستطع النتيجة
أن تصمد طويلا. ورغم استمراريتها القصيرة، ما زالت هذه التجربة تثير الاهتمام لدى السوسيولوجيين. بالإمكان إيجازها بأننا أدركنا أنه في حالة خاصة تحول المجتمع،
مع آرائه ومبادئه الرئيسية، بشكل مباشر ومن دون أن تحدث فيه تغييرات من أي نوع إلى غرض حقيقي للعبادة"
(Ibid. pp. 305-306 )
ومع ذلك ستحصل ثورات وانتفاضات جديدة، وسيحين الوقت لتنجرف المجتمعات المعاصرة مرة أخرى في الجنون الديني، لتتكون منه أديان جديدة. (مذكرات طقوس هتلر في نيرنبرغ تجعلنا
نضيف: لسوء الحظ!)
أنري برغسون (Henry Bergson) ينهي كتابه "مصدرا الأخلاق والدين" بهذه الجملة: "الكون هو ماكنة تنتج الآلهة" دوركايم كان سيقول: المجتمعات هي ماكنات تنتج الآلهة، ولكن لكي ينجح
هذا الجهد الإبداعي، من الضروري أن يهرب الأفراد من حياتهم اليومية، ويخرجوا من داخل ذاتهم وينجرفوا في حماسة مصدرها وتعبيرها معا هما تسامي النفس للحياة المشتركة.
التفسير الاجتماعي للدين، كما يراه دوركايم، يلبس إذن صورتين: الأولى تشدد على الفكرة أن الأفراد حسب الطوطمية يسجدون لمجتمعهم، دون معرفة أو لأن المقدس يرتبط قبل كل شيء
بالقوة الجماعية الغير شخصية التي تمثل المجتمع ذاته. حسب التفسير الثاني، تميل المجتمعات لإنتاج الآلهة أو الأديان عندما تكون في حالة تسام تنبع من قوة الحياة المجتمعية.
لدى القبائل الأسترالية، يحدث هذا التسامي أثناء الطقوس التي نستطيع مشاهدتها حتى هذه اللحظة. بينما في المجتمعات المعاصرة، يقول دوركايم، من دون أن يؤطر نظرية محددة،
يحدث هذا التسامي أثناء الأزمات السياسية والاجتماعية.
يطور دوركايم من هذه الأفكار الأساسية تفسيرات لمصطلحات "النفس"، "الروح" و "الله". ويتابع التطورات الذهنية لأشكال التمثيل الديني. الدين يعني مجموعة من العقائد، والعقائد ذاتها
يتم التعبير عنها بالكلمات، أي أنها تأخذ شكل فكر يحوي قدرا ما من المنهجية. دوركايم يبحث عن المدى الذي تصل إليه المنهجية في الطوطمية. فهو يريد أن يبين حدود المنهجية الذهنية في الطوطمية،
إضافة إلى إمكانية الانتقال من الطوطمية إلى الأديان الأكثر حداثة.
يوضح دوركايم أهمية نوعين من الظواهر الاجتماعية: الرموز والطقوس. عادات اجتماعية كثيرة لا تُوجَّه بالضرورة تجاه الأغراض ذاتها وإنما أيضا تجاه رموز هذه الأغراض. في الطوطمية،
لا تقع المحظورات على الحيوانات والنباتات الطوطمية فحسب، وإنما على الأغراض التي رسمت عليها الحيوانات والنباتات أيضا. وبشكل مشابه، لا تتوجه سلوكياتنا الاجتماعية اليومية تجاه
الأشياء ذاتها فقط وإنما على رموز هذه الأشياء أيضا. لقد تطرقت سابقا إلى كون العَلَم رمزا للوطن. الشعلة تحت قوس النصر بباريس هي ايضا رمز. المظاهرات الجمتهيرية مع أو ضد سياسات
معينة هي أيضا أفعال موجهة تجاه الرموز وتجاه الأشياء في آن واحد.
لقد طور دوركايم نظرية معقدة عن الطقوس الدينية، يوضح من خلالها أنواعها المختلفة وأدوارها العامة. وهو يفرق بين ثلاثة أنواع من الطقوس: طقوس سلبية وطقوس إيجابية وطقوس يسميها طقوس الكفارة.
تهتم الطقوس السلبية بالممنوعات بشكل رئيسي: حظر الأكل واللمس تتطور كعادة التقاليد الدينية الزاهدة والمتقشفة. بينما الطقوس الإيجابية هي طقوس اتحاد مع الرب، هدفها، مثلا، زيادة الخصوبة.
عادات الأكل تتبع أيضا للطقوس الإيجابية. يبحث دوركايم أيضا في طقوس المحاكاة والتقليد أو التمثيل، وفيها يحاكي المؤمنون أمورا يتمنون حدوثها. كل هذه الطقوس، سواء كانت سلبة أو إيجابية أو طقوس كفارة،
تلعب دورا اجتماعيا مهما. هدفها هو الحفاظ على بقاء المجتمع، وتحديث الشعور بالانتماء للمجموعة والمحافظة على العقيدة والدين. لا وجود للدين ألا بواسطة العادات، والتي هي رموز للعقائد وأيضا وسيلة لتجديدها.
نهاية، يستنتج دوركايم من بحثه عن الطوطمية، نظرية اجتماعية للإدراك. فهو لا يحصر نفسه في محاولة فهم عقائد وعادات القبائل الأسترالية، ولكن أيضا يحاول أن يفهم أنماط التفكير المرتبطة بالعقائد الدينية.
الدين ليس فقط النواة البدائية التي نبتت وتفرعت منها القواعد الأخلاقية والدينية بالمفهوم الضيق للكلمة، ولكنه أيضا النواة التي تتطور منها التفكير العلمي.
هذه النطرية الاجتماعية للإدراك تفترض برأيي ثلاث فرضيات:
1- الأشكال البدائية للتصنيف ترتبط بتصورات دينية عن الكون، نتجت من تمثيلات صنعتها المجتمعات المختلفة لنفسها، ومن ثنائية العالم الزمني الدنيوي والعالم الديني أو المقدس.
دوركايم يؤسس هذه الفرضية بعدة أمثلة.
"بشكل مجرد، لم يكن ليخطر ببالنا تقسيم الكائنات في العالم إلى مجموعات متجانسة، تسمى أنواعا أو أجناسا، لولا واجهنا المثال عن المجتمعات الإنسانية، ولولا كنا نتطرق إلى الأشياء نفسها كـأنها
أعضاء في المجتمع الإنساني، حيث لأنه قبل ذلككانت التصنيفات الإنسانية والمنطقية مختلطة ببعضها البعض. من جهة أخرى، هذا التصنيف هو أسلوب للتقسيم إلى مجموعات بترتيب هرمي.
هناك مجموعات مسيطرة، وهناك مجموعات خاضعة لها؛ تتعلق الأنواع وخصائصها المميزة بالأجناس والصفات التي تعرّفها. بكلمات أخرى تتواجد الأنواع المختلفة من نفس الجنس في المستوى نفسه."
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص210)
بشكل عام، يعتقد دوركايم أنه تم تقسيم العالم إلى مجموعات تسمى أجناسا، لأننا رأينا قبالتنا المثال الذي يقدمه المجتمع الإنساني. في المجتمعات الإنسانية هنالك تقسيم منطقي لمجموعات، يقع بشكل مباشر على الأفراد.
عادة التقسيم هذه، يتم توسيعها لتمتد إلى الظواهر الطبيعية، وذلك لأننا نرى العالم على صورة المجتمع.
التصنيفات لمسيطرين وخاضعين، تتطور من محاكاة الهرمية الموجودة في المجتمع. فكرة الهرمية، الضرورية للتصنيف المنطقي للأجناس والأنواع، كان بالإمكان استعارتها، في الواقع، فقط من المجتمع نفسه.
"لا منظر الطبيعة المحسوسة، ولا أنظمة التخاطر التفكيري، كان باستطاعتهما إعطاءنا هذه الفكرة. الهرمية هي ظاهرة اجتماعية صرفة. فقط في المجتمع هناك علوي، سفلي ومساوٍ. لذا،
ورغم أن هذه الحقائق لا يمكن إثباتها، فإن مجرد تحليل هذه المصطلحات يكفي لكشف مصدرها. لقد استعرناها من المجتمع ثم أسقطناها على الصورة التي نرى فيها عالمنا.
المجتمع هو من زودنا بالخلفية التي تطور بناء عليها الفكر المنطقي."
(Ibid. p. 211 )
2- يدعي دوركايم أن فكرة مثل السببية مصدرها هو المجتمع، ولا يمكن أن تطون قد نبتت من مصدر آخر. الإحساس بالحياة الجماعية يولد فكرة القوة. المجتمع هو من يولد في البشر الإدراك
بوجود قوة هي فوق الأفراد.
3- في النهاية يحاول دوركايم جاهدا أن يثبت أن النظرية الاجتماعية للإدراك، كما يصفها هو، توفر الوسائل المطلوبة للتغلب على نظريات معاكسة مثل الإمبيرية empirism والأبريورية apriorism،
التناقض المشهور الذي يناقشونه في الفلسفة التي تدرس في المدارس، والذي درسه دوركايم في الكلية في مساق الفلسفة، والذي سندرسه لاحقا.
الإمبيرية هي النظرية التي تكون بحسبها الأصناف، والمفاهيم عامة، ناتجة مباشرة من تجربة حسية. بينما حسب الأبريورية، وضعت المصطلحات والأصناف في الروح الإنسانية منذ البدء. ومع هذا، يزعم دوركايم أن الإمبيرية خاطئة لأنه لا يستطيع أن يفسر كيف تنبع الأصناف والمفاهيم من معطيات الحواس، وكذا الأبريورية خاطئة لأنه لا تفسر شيئا، لأنها تضع في الروح الإنسانية، كمعطى أساسي وأولي، ماهية الشيء الواجب تفسيره. الدمج بين الطريقتين يتأتى من خلال تدخل المجتمع.
من الواضح بالنسبة للأبريورية، أن الحواس وحدها غير كافية لتوليد الأصناف أو المفاهيم، وأن هناك أمرا آخر غير الحواس في الروح الإنسانية. ولكن، لم تفهم الإمبيرية ولا الأبريورية أن لهذا الأمر، والذي هو أكثر من معطيات حسيةـ يجب أن يكون له مصدر وتفسير. الحياة الجماعية هي تمكّن من تفسير الأصناف والمفاهيم.
المفاهيم، بحسب النظرية العقلانية، هي تعبيرات غير شخصية، لأنها تعبيرات جماعية. والتفكير الجماعي يختلف بطبعه عن التفكير الفرداني، والمفاهيم هي تعبيرات تفرض نفسها على الأفراد لأنها تعبيرات جماعية. إضافة لذلك، تلبس المفاهيم زيا تعميميا، كونها تعبيرات جماعية. ففي الواقع لا يهتم المجتمع بالأفراد وبالأمور الخاصة. فهو الجهاز الذي تستسلم بواسطته الأفكار للعمومية، وفي الوقت ذاته، تجد الأفكار فيه السلطة النموذجية للمفاهيم والأصناف.
"المفاهيم هي الطريقة التي يعبر فيها المجتمع لنفسه عن الأشياء"
(الأشكال الأساسية للحياة الدينية ص626)
للعلم سلطة عليا علينا لأن المجتمع الذي نحيا فيه يريد ذلك.
"من الضروري أن تأخذ المفاهيم سلطتها من قيمتها الموضوعية وحسب، حتى حين تكون مبنية على
أسس غير علمية. فصحتها غير كافية لتصديقها. إذا لم تكن متلائمة مع العقائد الأخرى، مع الأفكار
الأخرى، وباختصار مع مجموع التعبيرات الجماعية، فسيتم رفضها. ولن تقبلها الخلائق،
وفي النهاية ستكون كأنها لم تكن. إذا كان اليوم كافيا لتصديق أمر ما، حمله لختم علمي، فهذا لأننا نثق بالعلم.
هذه الثقة لا تختلف بماهيتها عن الإيمان الديني. فالقيمة التي نعطيها للعلم تتعلق في النهاية، بالمفهوم
الذي نبنيه لأنفسنا بطريقة جماعية عن طبيعته وعن دوره في الحياة؛ معنى هذا، أن العلم يعبر عن
رأي عام معين. بالطبع، من الممكن أن نرى في الرأي العام موضوعا للبحث وأن نحوله إلى علم؛
هذا هو أساس اهتمامات السوسيولوجيا. ولكن، علم الرأي العام لا يشكل الرأي العام؛ فهو يستطيع أن
يوضحه ويجعله معروفا أكثر، لا غير. يستطيع العلم أن يصنع تغييرا في الرأي العام؛ ولكن العلم سيبقى
متعلقا بالرأي العام حتى لو خيّل إليه أنه يملي قوانينه؛ حيث أن العلم يستقي من الرأي العام القوة
اللازمة للتأثير عليه."
(Ibid. pp. 625-626 )
لو اختفى الإيمان بالعلم، على سبيل المثال، من مجتمع معين، فإن كل الإثباتات العلمية الحالية ستصبح بلا فائدة. هذه حجة مفهومة ضمنا، وسخيفة في نفس الوقت. حيث أنه من الواضح أن الإثباتات العلمية لن تقنع أحدا في اللحظة التي يتوقف الناس عن الإيمان بقيمتها. ولكن الحجج لن تفقد صحتها، حتى لو افترضنا أن الناس قرروا التصديق بكون الأبيض أسود، وكون الأسود أبيض. إذا كان الحديث يدور عن الإيمان كظاهرة نفسية سيكولوجية، فإن دوركايم محق تماما؛ أما إذا ما كان الحديث يدور عن الحقيقة من منظور منطقي أو علمي، فيبدو لي أنه مخطئ تماما.
خلا هذا البحث أكثرت من الاقتباسات، لأنني لم أكن واثقا من نفسي.أجد صعوبة معينة في اختراق نمط تفكير دوركايم، على ما يبدو بسبب انعدام الولع اللازم للفهم.
المجتمع بحسب دوركايم، هو واقعي ومثالي في آن واحد، ويصنع المثال من جوهر ماهيته. عندما أنظر للمجتمع على أنه مجموعة من الأفراد كما هو حال الكلان في المجتمعات الأسترالية – حيث أن المجتمع كواقع محسوس، يمكن إدراكه من الخارج، يتكون من الأفراد ومن الأغراض التي يستخدمونها – في هذه الحالة، أراه غير صحيح أن هذا المجتمع ، الذي هو واقع طبيعي، يمكن أن يكون أرضية خصبة لنمو العقائد. من الصعب أن نجد عادات دينية تكون خاصة بأفراد وحيدين. إضافة لذلك فإن كل الظواهر الإنسانية تعكس بعدا اجتماعيا، ولا يوجد دين معين خارج المجموعات التي ولد بها، أو خارج الجاليات المسماة كنائس. ولكن، إذا أضفنا لذلك كون المجتمع مثاليا عدا كونه واقعيا، وأن الأفراد الذين يعبدونه، فإنهم يسجدون لواقع غيبي، من الصعب علي تقبل ذلك؛ حيث أنه إذا كان محتوى الدين هو حب المجتمع القائم والمحسوس، يبدو لي أن هذا الحب هو نوع عبادة الأوثان، وفي هذه الحالة يكون الدين رؤية وهمية كما هو الحال في التفسير الأنيمي أو الطبعاني.
هناك إمكانيتان:
الإمكانية الأولى: أن المجتمع المتوجه إليه بالعبادة هو مجتمع موجود ومحسوس، يتكون من أفراد، وهو غير كامل لأن أفراده غير كاملين؛ وفي الحالة هذه فإن الأفراد الساجدين له هم ضحايا رؤية وهمية تماما كأولئك الساجدين للأشجار، الحيوانات، الأرواح أو الأنفس. إذا اعتبرنا المجتمع واقعا طبيعيا، فإن هذا التفسير لدوركايم لا "ينقذ" موضوع الدين أكثر من أي تفسر آخر.
الإمكانية الثانية: أن المجتمع كما يراه دوركايم ليس مجتمعا واقعيا، ولكنه مجتمع يختلف عن المجتمع الذي باستطاعتنا معاينته، وبهذه الحالة نترك مجال الطوطمية وندخل مجال الدين الإنساني على هيئة مفهوم أوغست كونت. فالمجتمع المتوجه إليه بالعبادة ليس واقعا محسوسا وإنما واقع مثالي يعبر عن المثال المتحقق بشكل غير كامل في المجتمع الحقيقي. وإذا كان الأمر كذلك، فليس المجتمع هو الذي يفسر تكوّن مفهوم "المقدس"، ولكن مفهوم "المقدس" الذي تكون في الفكر البشري، هو الذي يغير وجه المجتمع، كما يستطيع تغيير وجه كل واقع آخر.
يقول دوركايم أن المجتمع ينتج الدين في الأوقات التي تلتهب فيها الحماسة. هنا نتحدث عن حالة خاصة منفردة. فالأفراد موجودون في حالة نفسية يشعرون من خلالها بقوى غير شخصية، وهي جوهرية وغيبية في آن واحد.هذا التفسير للدين يؤدي إلى تفسير سببي بحسبه يساعد الحماس الاجتماعي بتولد الدين. ولكنهنا يسحب البساط من تحت الفكرة القائلة أن التفسير الاجتماعي للدين يمكّن من إنقاذ موضوع الدين بالقول أن الإنسان يسجد لما هو مستحق للعبادة. أيضا، نحن نخطئ بحديثنا عن المجتمع بصيغة المفرد، حيث أنه بحسب دوركايم نفسه هناك مجتمعات، بصيغة الجمع. إذا كانت العبادة موجهة نحو المجتمعات، فستكون هناك أديان قبلية أو قومية. وفي هذه الحالة تكون ماهية الدين ليست فقط إرساء الإخلاص المتشدد في نفوس الخلائق تجاه مجموعات صغيرة وتوجيه الإخلاص الفردي نحو مجتمعه، ولكن أيضا، توجيه كراهيته نحو المجتمعات الأخرى.
يبدو لي أن ليست هناك إمكانية لتعريف ماهية الدين كعبادة الفرد للمجموعة، فحسب رأيي، السجود للنظام الاجتماعي هو ماهية الكفر بالذات. الزعم بأن الأحاسيس الدينية موجهة نحو المجتمع بهيئة أخرى، هذا الأمر لا يعني إنقاذ التجربة الإنسانية التي تحاول السوسيولوجيا شرحها، ولكنه تقليل من قيمتها.
0 تعليق(ات):
إرسال تعليق